بيتُ القراء و المدونين
  •  منذ 3 سنة
  •  0
  •  0

كاتب(ة) : عبير حسن

صغيرتي

اجرجر قدماي المثقلة بأذيال خيبتي فى طريق بؤسي اليومي مستقلًا حافلة أحزاني، وحيدًا بين قطيع مقطعة الرؤوس فتدافع بيدها وقرون تنطح بلا منطق ولا هدف. أما أنا ضعت بين الذكريات بين ما أتًا وما فات أثقلت كاهلي وفقدت بوصلتي، صرت غريبًا بين الحشود، غريبًا بين كل تلك الوجوه والضوضاء والأفكار، غريبًا هنا وكأنِ لا انتمي إليهم ولا ينتمون إليّ، فاضحيت غريبًا عن نفسي.

حتى وقعت عيناي عليها، أراد القدر فتح جُرحًا تقيح فما عاد العلاج يجدي نفعًا ولا الاستئصال ممكنًا، عصر ذاك الوجه الملائكي جرحي القديم، فإعتصر الفؤاد ألمٍ، وحلقت طيور الحزن فوق رأسي، فثارت شجوني عليّ مُعلنه التمرد.

تشبهها كثيرًا، تسمرت قدماي أنها هى، ذات العينين الواسعة، والوجه الطفولي نفسه، اظُنها في نفس عمرها، زهرتي المقطوفة قبل تفتحها، فقيدة قلبي للأبد، وجُزئي الموؤد أفقت على نهيق أحدهم خلفي دافعًا اياي بمخالب يده مرددًا "متيلا ياستاذ".

صعدت حافلتي مُشيَعًا لعملًا قتل بمخالب روتينه أخر خلاييّ النابضة، فأضحيت جثة لم تحظى بتصريح دفنها، تعبث بها الأيدي.

جلست بالكرسي المقابل لها يفصل بيننا الممر فقط، شردت فى تفاصيل وجهها الملائكى…

(محدثًا نفسي)

"آلاف المرات جلست بجواري كالفراشة بذي المدرسة، كم مرة شهدت الحافلة ضحكتها وسمعت صوتها، كانت طفلة مشاكسة وفتاة ناضجة، لعبت دور أمي مبكرًا، كم مرة اعتنت بملابسي ومظهري وطعامي وهي لا تزال فى السابعة عشر من عمرها، وفي المقابل كم قسوت لشدة خوفي عليها من مجتمع يحملها الإثم دائمًا".

مرّ شريط حياتي معها كاملًا وأحزاني أمام ناظري، عظُم الحزنُ فتحجر الدمع بمقلتي، واي حزنًا أشد من أن تذكر أيام هنائك وسرورك وأنت فى أشد حالات تعاستك وشقاءك؟! يجلدني الندم كل لحظة، لتنوب الروح بالدمع عن مقلتي، حتى هلك الفؤاد من الآلام المتتابعة.


لا أدري كم مر من الوقت شاردًا معلقًا عيني بيها، حتي لاحظت يدها تفركهم بقوة وتحرك قدميها بشكل ينم عن توترها، حتى افقت على صعقتها انتفض جسدها وكأن العقرب نال منها، رأيت الهلع فى عينيها ممزوجًا بالحسرة، مغلفة بمشاعر الخزي والعار، تيبست أطرافها من وقع الصدمة، فى بداية الأمر هدأت من روعها معتقدة أنه لم يقصدها بالطبع، حاولت تجميع شتات أفكارها نظرت حولها هل من شاهد فتلاقت اعيننا فى نظرة خاطفة فغضضت بصري سريعًا لا أدري خجلًا منها أم من نفسي.

ها هي معركتي القديمة تلوح فى الأفق من جديد، تلك المعركة اللعينة بين المفروض والمرفوض، بين العادات وضميري بين ما لُقنت فى صغري ومنطقي، بين تجربتي اللعينة والمجتمع، تلك التجربة التي قلبت حياتي رأسًا على عقب، محت ألوان حياتي لتتوشح بالسواد، أضعت بهجتها بإنتحار صغيرتي ووحيدتي فأضحت بلا مزاق.


تلفتُ إليها مرة أخرى، وكأنه أراد القدر أن يضعني هنا بين مطرقة ضميري وسندان مجتمعي، فعلها الوغد مرة أخري، هذة المرة أقذر وأقبح وأوضح من سابقتها مستغلًا الزحام والركب الكُثر. ترأت أمام ناظري صغيرتي تستنجد بي صارخة…

"أبي لا تقتلني مرة أخرى".

نعم أعترف صغيرتي أنِ قاتلك بقسوتي عليكي أولًا ثم بعدم إنصافِ لكِ ثانيا، خشيت الناس أكثر من خشيتي عليكِ، لأتجرع وحدي مُر فُراقك ومخالب وحدتي.

فكرت فيما فعلت بزهرتي فيما مضى، كنت ابًا قاسًا، خافت لقسوتي أن تخبرني بما يفعل أبن جاري من مضايقات وتحرشات، ولم تجد أمًا ترتمي بين ذراعيها، فقد ماتت فى صغرها حتى تجرئ الوغد وأغتصبها.

نظرت لذاك الحيوان فى جسد بشر يتطاير من عيني الشرر، رأيت فيه ابن جاري مغتصب صغيرتي، فالأوغاد تتشابه.

لن أصمت هذه المرة، ومما أخجل! ثارت ثورتي لإنقاذ صغيرتي فى جسدًا أخر، لأسكب عليه حمم براكين غضبي، لولا أن خلصه الجمع من يدي للفظ أنفاسه الأخيرة، لم أكتفي ولن أكتفي سحبته كخروفًا من عنقة ومعي صغيرتي حررت محضرًا وكنت الشاهد.


كل ليلي…

أراها مُتشحه بالسواد والأيدي مُخضبه بالدماء تبكى وتنوح، وحينما أقترب تركض منيّ فزعه أظل أركض خلفها لتسقط من قمه جبلًا…..

لكن اليوم طلتها تختلف، كانت كقمرًا ليلة التمام بثياب عرسًا، وحينما اقتربت منها لم تركض تبسمت لي، لأرتمى بين ذرعيها نائحًا، "أغفرِ ليّ صغيرتي…"

تبسمت مشيرة برأسها أى نعم…

تمت

قم بتسجيل الدخول لكي تتمكن من رؤية المصادر
هذا المقال لا يعّبر بالضرورة عن رأي شبكة لاناس.