بيتُ القراء و المدونين
  •  منذ 5 سنة
  •  0
  •  0

كاتب(ة) : تريعة شهيناز

الغربة في ليالي باريس

في ليالي باريس الهادئة وأنا أحمل الخبز الطازج وبعض الخضر عائد من دوام، فعملي صعب فأنا جارح؛ عدت إلى بيتي الموحش الذي أكره العودة إليه، فأنا كل يوم أتخيل ضحكات الصغار وأسرة مجتمعة على الطاولة، إشتقت تذوق طعم الأكل فقد أصبحت لا أميز الأكل، أحاول إلهاء نفسي بالعمل لأن هذا الحزن الذي لم أستطيع إخفائه في ملامح وجهي؛ الجميع يسأل شاب مثلك في سن الزهور تتوفر به مواصفات العريس المثالي لأي بنت لماذا لا يتزوج لماذا يعيش وحيدا حزينا، بصراحة حتى أنا لا أملك جواب هذا السؤال!!

ببساطة فقدت طعم الحياة أصبحت أيامي متشابهة حتى خزانة ملابسي لا توجد فيها ألوان؛ ستسألون لماذا كل هذا الحزن واليأس؟! ستقولون هل الحياة أعطته أقسى الدروس؟ نعم أنا شخص رفع رايته البيضاء للحياة؛ أنا من تركت وطني وعائلتي وركبت قوارب الموت بحثا عن حياة أفضل ؛رغم أنني متفوق في دراستي تخرجت ولكن لم أجد من يدعمني، حلمت بفتح مشفى خاص بي إلا أنني أصبحت خضار أصيح لبيع كيلوغرامات الخضر والفواكه،لقد صدمت بعد سنين التعب في الطب وعزلتي بين جدران غرفتي ولكن شهادتي لم تنفعني؛ لأن الكفاءات والأطر في وطني مهمشين، ضاقت الدنيا علي فقد إنهرت; فعائلتي عائلة فقيرة، فقد صرفوا علي طوال هذه السنين.. ولكن في نهاية المطاف بعد تخرجي أصبحت بطال لأنني لا أعمل في وظيفتي ،لم أتحمل هذا الواقع المر ،كنت أفكر للذهاب إلى الخارج رغم مرارة هذا القرار ولكن لم يكن لدي المال.

أغلقت كل الأبواب في وجهي أصبحت أكره ظلم الحياة فزميلي الذي ترك الدراسة مبكرا أصبحت له وظيفة جيدة ومرتب عال وإشترى سيارة فخمة وأنا الفتى الذي أفنى سنين عمره في دراسته أصبح خضار ، مر علي بسيارته وطلب مني أن أزن له بعض الفواكه ، وبعدها قال لي خذ الباقي هذا الوضع إستفزني ، قلت للحظة لماذا أنتي ظالمة أيتها الحياة أنا الجراح أعمل خضار، لم أتحمل فقد كانت هذه القطرة التي أفاضت الكأس.

قررت مغادرة الوطن رغم حبي لي وطني، لم أستطع توديع أمي وإخوتي وأبي، فأنا أكره لحظات الوداع ،لقد خبأت قليل من المال وذلك لتغطية تكاليف القارب الذي ينقلنا، للحظة إستغربت أنا كنت من المعارضين لفكرة الهجرة السرية ،وأنعتوا الشباب الذين يركبون قوارب الموت بلامسؤلية فهم لم يفكروا في عائلاتهم، فأصبحت للحظة أركب هذا القارب وأعرض نفسي للخطر وأترك وطني وعائلتي التي لم أستطع توديعها، لقد تركت قلبي وروحي معهم. كنت أنانيا لم أفكر في أمي التي لا تنام إلا بسماع صوتي فأنا مدللها وفخرها ، ولكن يا أمي الحياة الظالمة وواقعي المرير لم يترك لي حلا سوى الفرار أن أجد بلد يقدر تعبي ودراستي، بلد يدعم ويحقق حلمي .

وفعلا وصلت لفرنسا، وتوجهت للجامعات فأنا مطلع عليها جميعها فطالما كانت أحد أحلامي إكمال دراستي في إحداها مع إتقاني المحكم للغة الفرنسية، دخلت الجامعة وسلمتهم ملفي ومن حسن حظي أتيت في فترة التسجيلات و وجهوا لي بعض الأسئلة وكانت إجاباتي جيدة، وطلبوا مني مبلغ لتسديد مستحقات التعلم والتوظيف يكون بعد عام من الآن، فكان ردي غريبا بالنسبة لهم قلت بشجاعة لا أملك المال، وليس لدي مأوى أو أكل، هربت من بلدي لأجد أشخاص يقديرون الكفاءات، سمع ردي أحد الأساتذة هناك فقال بصوت عال أنا أتكفل بمصاريف تعليمه وأكله وإقامته.

لقد فرحت بهذا الخبر حتى أني ذرفت دموع لم أنسى حرارتها، لأني سأصل ،نعم أكملت دراستي والدولة تعاونت معي وأعطتني مأوى وعملا ومرتبا مرتفعا، وأصبحت لدي سيارة.

لقد تحققت كل أحلامي في ظرف وجيز ، لكن مع كل هذا لم أكن سعيدا فأنا بعيد عن عائلتي وما أستطيع فعله إرسال المال لأساعدهم، كل يوم أنام على صوت أمي الباكي الذي أكوته نار الفراق وتحاول إخفاء نبرة صوتها الحزين، ودوما ما كنت أسأل نفسي لماذا وطني لم يستفد مني؟ لماذا لم يعطني فرصة التي كانت ستغير حياتي؟! وما كنت مضطرا على ترك عائلتي وأرضي!

صدقا أتوق لقضاء رمضان معهم ، ونجتمع على المائدة ونحن ننتظر الآذان، ونشم أشهى الروائح مع أننا عائلة فقيرة ، لكن رمضان يطرح بركته ونتبادل الأطباق بين الجيران.

ذات يوم رن هاتفي في ساعة متأخرة من الليل وأول ما سمعته أمك ماتت، صدمت لم أستوعب ماذا قيل لي، لقد إنهرت، أنا غيابي طال عن البيت لقد نسيت رائحة أمي، لم أكن جنب أمي في لحظاتها الأخيرة، لم أودعها وعدتها عندما أعمل أن أتفسح بها بسيارتي في البحر، وأن أخذها في عمرة، وعدتها بأن أشتري لها الحلي ومنزلا وأمورا كثيرة، ولكن أمي ذهبت من هذه الحياة مقهورة ومشتاقة لتضمني لصدرها ، كنت أريد أن أبكي على حضنها، كنت أريد أن تعيش كالملكة .

آه لماذا ذهبت يا أمي على غفلة ، وأبشع ما في الأمر أني لن أستطيع حضور جنازتها وإلقاء النظرة الأخيرة عليها وشم رائحتها وأن أحتضنها، لأن أوراقي ليست جاهزة للسفر، أنا في غرفتي أبكي كالولد وعاجز حتى عن حضور جنازة أمي، آه أيتها الغربة اللعينة، تمنيت لو أني بقيت ذلك الخضار وبقيت جنب أمي، لقد قهرتها وغادرت دون حتى توديعها .

مرت السنين سريعا ولكن لم تضمد جرحي عدت لأرض الوطن وأنشأت مستشفى بإسم أمي، ذهبت لقبرها وأنا أبكي بوجع وأصرخ: لقد حققت حلمكي لكن أنتي لست معي، لم تعيشي يوما جميلا، أنا لم أفي بوعودي يا أماه.

أنا لن أتحمل البقاء في مكان لا توجد فيه أمي، المشفى الذي أنشأته كان لأولئك المتخرجين والمتفوقين، لم أكن أن تتكرر معاناتي، أو أن تعيش أم أخرى معاناة أمي، أما أنا عدت لغربتي فمن بعد خسارتي لأمي لم أتحمل البقاء، وأن أعود من حين لآخر لأتفقد أسرتي، وأشرف على المشفى الخاص بي.

أتمنى من كل قلبي إلى كل شخص تعب في دراسته أن يتحقق حلمه وأن يفخرا به والديه أتمنى من جميع الدول إعطاء المناصب لأصحاب الكفاءات والأطر لا بناءا على المحسوبية.

قم بتسجيل الدخول لكي تتمكن من رؤية المصادر
هذا المقال لا يعّبر بالضرورة عن رأي شبكة لاناس.