كاتب(ة) : شيخ النقاد د. محمد مندور
النُظم والأخلاق
لقد أجاب دكتور مندور فى هذا المقال الذي نشر فى مجلة البعث سنة ١٩٤٦ علي سؤالنا اليوم ألا وهو "ما السبيل إلى أزمه الأخلاق التي يعانى منها النشأ؟"
لا نريد أن نعيد القول فيما نشاهد الآن بين المصريين من ضعف خلقي لا شك فيه، وذلك لأن الولولة لن تجدي فتيلا، و خير منها أن ننظر في الوسائل التي يمكن أن تعالج بها هذه الحالة المحزنة.
وقد حان الحين لكي ينصرف التفكير إلى استنباط الحلول، أما الاكتفاء بوصف ما هو واقع، أو انتقاده والسخط عليه، فعقم وإضاعة للجهود.
وليس من شك في أنه لا جدوى الآن من أن نطالب الأفراد بقوة الخلق واستقامة الضمير، وأن ندعوهم إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة.
إن هذا عبث.. وذلك لأنه من الغفلة أو النفاق أن نطالب الأفراد ب٦ان يكونوا أبطالا عندما تتضافر النظم السياسية والاجتماعية القائمة، على أن تنزلهم منزلة العبيد..!
القارئ لابد قد لاحظ بنفسه كيف أن جميع الخطب والمواعظ، بل والمقالات الأخلاقية إن لم تكن الكتب، لم تجد، ولن تجدى فتيلا فى إصلا نفس فاسدة، أو تقويم خلق معوج، أو بث الأمانة فى قلب خائن، وهى لا تعدو إذا كانت جيدة، مجرد إثارة إعجاب وقتى بها وبقائلها أو كاتبها، ثم يتبدد أثرها فى لحظات وتعود ضرورات الحياة وقسوة النظم فتأخد بخناق الفرد، وتسوقه إلى الانحلال.
عندما يرى الشباب أنه لا سبيل إلى عمل يعيش به إلا بالوساطة أو الزلفى أو الاحتيال، كيف تريده أن يكون عزيز النفس، كريم الخلق؟ عندما نرى مظلوماً يقض الظلم مضجعه ويسهد جفنه، ويضنى لبه، ثم يسكت على هذا الظلم ويتركه يرعاه رعياً، كما ترعى النار الخشب اليابس، وكلما ازداد تفكيراً فيه ازداد إحساسه به كالخيل عندما تلوك لجامها.
نعم..عندما نراه فى هذه الحالة المميتة للشجاعة، كيف نستطيع أن نلومه وهو ينظر، فلا يرى سبيلا للانتصاف من الظلم غير الشكوى لظالمه، وهو فى الغالب يائس من نتيجة تلك الشكوى، وذلك بينما نرى فى كافة بلاد العالم قضاء ينصف من الحاكم الظالم، أو مرءوساً يرد بغى رئيسه؟
عندما ترى الفرد مهما جد وأجهد ومهما أوتى من مواهب النفس، لا يستطيع إذا قصر اعتماده على ملكاته الخاصة، ولم يلجأ إلى الطرق الحقيرة، لا يستطيع أن يكسب ما يعوله ويعول ذويه.
نعم.. عندما ترى هذه الأوضاع كيف تستطيع أن تطالب مثل هذا الفرد بالعفة وكرم الخلق؟
عندما ترى الفرد مريضاً بأعصابه تصرعه الهستريا، أو يعذبه التشاؤم أو تسيطر عليه وفكرة ملازمة كاضطهاد أو عجز فطرى، ثم لا تبحث عن سر دائه لتجده فى فساد العلاقة بين المرأة والرجل، أو فى سوء النشأة المنزلية أو ضغط التصرف، لاشك أنك تطلب منه المستحيل. إن أدواء الأمم، وبخاصة العميقة منها، كالأدواء الأخلاقية التى تتبلور فيها الحياة العامة، لا تعالج بالألفاظ أو المواعظ إذا أردت أن ترى أخلاق الناس مستقية، وجب أن تحيط الفرد بكافة الضمانات التى تحمى قوته كما تحمى كرامته. إن النظم السليمة هى التى تخلق الأخلاق السليمة، وهذا اتجاه يجب أن ندفع إليه دفعاً قوياً، وألا نستمع إلى ما يردده بعض السطحيين أو المتغافلين عندما يقولون إنه لا فائدة من النظم مادامت الأخلاق منحلة.
لقد وصلت مصر إلى حالة لا مفر من ان نبدأ في علاجها بواسطة إصلاح النظم، فنخلق قضاءً إداريًا لحماية الفرد من عسف الدولة، وتشريعات للعمل تكفل للعمل أجراً مجزيًا عادلا، وقوانين للتوظف توفر على الطالب كرامته وتصون ماء وجهه، ووسائل للعلاج النفسى العصبى تطهر النفوس من أدرانها.
ولا يغرن أحد ما يسمعه أحيانا من القول إن استقامة الحياة عند هذا الشعب الأوروبي أو ذاك إنما ترجع إلى متانة أخلاقه..وإلا وقفنا في دائرة مفرغة، والذي لا شك فيه أن أي شعب من شعوب الأرض لو أصيب بما هي مصابة به مصر الآن، من احتلال أجنبي وعسف داخلى في المجالين السياسى والاجتماعى، أو أمراض جسيمة وروحية.
نعم..لو أن شعباً ابتلى بكل هذا لذهبت أخلاقه أدراج الرياح. النظم السليمة هي التي ستخلق في مصر الأخلاق السليمة فلنحاول خلقها!