بيتُ القراء و المدونين
  •  منذ 5 سنة
  •  1
  •  0

كاتب(ة) : نوال الراضي

امرأة حرة

رغم كل ما كابدته (زهرة) وعانت منه وعاينته في مختلف مراحل حياتها بضجيجها وسكونها، بسقوطها ونهوضها من جديد، بفرحها وحزنها، في دهاليز مظلمة بسبب اندثار الكثير من الأحلام البسيطة التي علقت عليها آمالا عريضة؛ هي لا تزال مصرة على شق طريقها في جبال شامخة من الطموحات لإنعاش رئتيها بنسيم الحياة وأنوارها المضيئة وللتعبير عن تجربتها في الحياة واستشراف آفاق مستقبلها بروح مفعمة بالأمل، وإن هجرت في كثير من الأحيان الحياة وتمردت عليها بصيغ مختلفة، فإنها تؤثر مقاومتها في معركتها، وبما أن كل ما تتذرع به يتهاوى لينذر بفشل ذريع، ولا يسعفها على تبديد الظلمة التي تلفها من كل جانب، فهي في آخر المطاف تجد ذاتها محاصرة بالفراغ وهذا ما يذكي في روحها الغوص في عالم الوحدة المليء بالآلام والأحزان.

يأسرها الوهم فتشعر بكآبة قاتلة، تتفاءل أحيانا وتبتئس أخرى من الحظ السيئ الذي أصابها

مقررة المقاومة إلى النهاية ومصرة على مواصلة الدرب بعزم وإصرار.

تجربة حياة مريرة تتسم بحيرة مظلمة جدا، ما أصابت فيها هدفها مطلقا فكانت دائما تخطأ طريقها، وبقيت في مكانها يحاصرها جمودها وركودها، إلى أن أذن القدر بتحررها.

سكن الليل وخيم الهدوء وتوقفت الحياة عن الحركة، لا أحد يعلم إن كان سيعود للحركة بعد النوم أم لن يعود مجددا كل الأمور غيبية لا أحد يدري مبناها ولكن معناها يضل قريبا من الأذهان، والصمت وحده كفيل أن يحملك من أوجاع الواقع الذي تعيشه، نعم عليك بالصمت أكبر قدر ممكن وأطول وقت استطعت إبقاء فمك مغلقا؛ ففيه شفاء للعقول وراحة للأرواح، وكل بني البشر يشتهون الهروب ذات لحظات؛ وفقط عن طريق الصمت يفعلون ذلك.

كانت هذه آخر كلمات سمعتها من أبيك قبل موته، لقد كان مثقفا وعلى وعي بالواقع المعاش.. وأنت باكورة زواج غير مرغوب فيه... نعم أنت كذلك، ولكنني أحبك؛ تتمتم (زهرة) في أعماق نفسها.

يتيه بها الفكر إلى ذكرياتها معه؛ فتقول في نفسها: ذلك الرجل ولد كفيفا، عاش متسولا، مات وحيدا، أنا لم أحببه يوما ولا أحد كان معه...يال قسوة الحياة.

متى كان يفكر في الموت؟ ولماذا سيفكر فيها؟ هل كان حيا أصلا؟ ولم الحياة تعاش إن كانت البدايات تعيسة، والنهايات أتعس؟

دهسته سيارة وهرب السائق دون أن يلتفت إليه بلا رحمة ولا شفقة، رغم أنه رأى عجزه المتجلي في عصاه التي يتوكأ عليها في معرفة طريقه.

تتذكره حين كان يناديها تعالي تعالي ترد عليه هي بصوتها العالي: أنا لست متاحة الآن.

لم أحببه يوما لطالما كررتها بمرارة، كنت مرغمة على معاشرته ليلة الزفاف الأولى، فقط الأولى.

كل ما كان يجلبه لي من مال لم يكن يسعدني به؛ كان يتسوله من الناس ويأتيني به ظانا أنه سيسعدني بما جمعه من دريهمات، فرحا كان يقول لي: اشتري ما شئت وتمتعي بالحياة. أما أنا فقد كنت دائما أستحضر في نفسي مقولة: (البسي ما شئت من الفساتين أم تحسين لن تبدي جميلة في عين نفسك، ما دمت لست مقتنعة بطهارة روحك)، لم تحبيه يوما حتى وإن اشتريت ألف فستان وألف حذاء وألف حقيبة، حتى ولو ركبت صاروخا مكوكيا، كوني على يقين ركوبك محدد بزمن وستنزلين منه وستصعدين إلى السماء ليلا بعينيك لتري معالمها، ثم ستعودين لتنزلي على الأرض لتستلقي بظهرك على فراشك وتغمضي عينيك؛ فالمال لا يشتري السعادة مطلقا.

تستيقظ من أوهام يقظتها، وتعود إلى واقعها قائلة: دعيني صغيرتي أمشط خصلات شعرك الذهبي وأنظر إلى عينيك الخضراوتان يا إلهي تشبهين أباك إلى حد كبير، وأنا أنظر في وجهك أتأمل قسماته وأستحضر صورته بين عيني اللتان تحدقان في عينيك، رغم أنني لم أحببه يوما أرهقني اليوم غيابه وتمنيت في لحظات من حياتي لو أني كنت مكانه ذلك اليوم ورحلت عوضا عنه، لارتحت من عذاب الضمير، ولكني أخاف أن أتركك، ما ذنبك أنت؟ بصراحة لم أعد أستسيغ حياتي من دونك، ولمن سأتركك؟

هل أتركك لهم ليفعلوا بك ما فعلوه بي؟ لا مطلقا، وأنا أخبرك بهذه الكلمات بدأت أتعب من التفكير في الغد وكأن الغد قطبان من حديد على نار حامية أضحت محمرة جناباتها من شدة اللهيب، تشوي فكري كيف السبيل إلى إيجاد بدائل، أين المفر من هذا العذاب الصامت إنه التفكير القاتل الذي ينخر خلايا القلب ويستنزف طاقة الروح.

قلت لا، ويا ليتني امتلكت الجرأة وقلتها سابقا.

أخبرتهم أنني سأعود لإتمام دراستي... لم يصدقوا ذلك، أخبروني عن عريس آخر؛ شيخ هرم...

هذا ما تبقى أن يدخلوني مستشفى الأمراض العقلية، هم يظنونني فقدت عقلي؛ عذرا أنا لست مجنونة، أنا فقط أعبر عما أشعر به وأحسه من آلام وأحزان؛ إنه البؤس في أرقى مظاهره، نعم هذا هو بالذات ما أشعر به، وأنا لا أدري إن كنت سأستمر على هذا الحال؟ وواقع الحال يقول لا، أنا ما كنت أعلم أن كل هذا سيقع وما الذي وقع؟ لا شيء وقع، في نظرهم هم الزواج أمر عظيم، وفي نظري أنا هو سجن مظلم؛ تتحدث مخاطبة نفسها.

أريد أن أعود القهقرى عشرة سنوات إلى الوراء، أريد أن أعود صغيرة، لأصرخ في وجوههم وأقول: لا، أنا حرة في اختيار طريقي.

أنا سأكتب تاريخي، بعلمي، بعقلي، بقلمي، ألم تكن أولى الوصايا اقرأ؟ دعوني إذن أقرأ، لأحدد مصيري بنفسي، وأختار طريقي لوحدي، أنا لست قاصرا، أنا لم أعد طفلة.

أريد أن أرتاح من ظلمكم، من قسوة قلوبكم، من سواد فهومكم، عقولكم المنغلقة تخنقني.. لا أريد للدموع أن تنزل من عيناي مرارا، كما رأيتها تنزل من عيني أمي مدرارا، لست أفكر في إمضاء حياتي بين أربعة جدران، وقضاء الوقت في الكنس والطبخ والنوم، وانتظار رجل لا يراني.

لا أريد أن أتزوج، لا زلت صغيرة على حمل هموم الحياة وأحزانها.. اليوم صرخت في وجوههم: أنا امرأة حرة، أريد أن أعيش حياتي وأن أخرج مع ابنتي؛ أتجول في الطرقات وأشتري كل ما يحلو لي دون قيد أو شرط، أن أتنفس الصعداء وأعيش بسعادة، أعطوني حريتي أطلقوا يدي.

قم بتسجيل الدخول لكي تتمكن من رؤية المصادر
هذا المقال لا يعّبر بالضرورة عن رأي شبكة لاناس.