كاتب(ة) : نوال الراضي
حنين
أبي العزيز.. اشتقت إليك كثيرا وأحن إلى لقاءك في جنة خضراء.
بسرعة الريح بل بسرعة البرق ، دعني أخبرك عن مشاعري: أنا لست بخير ، لا زلت صغيرة يا أبي ، ولكنني أحمل في صدري هموم الكبار ، تكبر معاناتي ، وأفكاري لا تنتهي ، تتسرب إلى ذهني وتنقر على جدار عقلي ، دعني أقول لك: إنني سقطت في شباك الوحدة الفولاذي الذي لا تقطعه أداة مهما بلغت من الحدة والقوة وإن كانت سيفا.
غيابك قتلني ، فخرت قواي لأسقط وأتهاوى من أعلى الجرف ، سقطت دون دماء تسيل ، كسوري لم يلملمها الزمن بعد ، ولا سبيل إلى لملمتها بغير اللحاق بك ، أريد أن أخبرك أنني بأمس الحاجة إليك ، إلى سماع صوتك ، إلى ضمة من حضنك ، ماذا سأفعل من دونك ، وحدك كنت تبعث السعادة في قلبي ، وترسم البسمة على شفتي ، أريد زيارتك في بيتك ذاك الذي تسكنه الآن ؛ لأراك وأتلمس ذكرياتك التي بصمتها في أعماق روحي ، لكنهم يمنعونني دائما ، ويقفون حجر عثرة في طريقي إليك ، يدوسون على طرفي ، ما أقسى قلوبهم !
قتلوا فيي مشاعر الاشتياق ، ما فتئوا يحدثونني عن مصير من يموت متعمدا عن سبق إصرار على الموت ، وإن خوفا علي من اللحاق بك.
دائما أفكر فيك ، وفي القدر الذي حبسني في هذا الكرسي الذي لا أتزحزح عنه ، وأفكر في خالي وخالاتي الذين حبسوني في غرفة مؤصدة ، وشباك حديدي بعد أن استبدلوا نافذته الزجاجية التي كنت أحاول الخروج منها للقائك مرارا وتكرارا ، لماذا يحبسونني وهم يعلمون أنني لا أعيش في سجن أعظم من سجن الغرفة؟
لا أكاد أجد حقيقة واقعي هذا ، ولست أحقد عليهم ولا أجد أحدا يستمع إلي.
دائما أفكر في من يظلم من؟ أأنا أم هم؟ هذا هو السؤال الذي أطرحه على نفسي وأنا أعيش حالة إدمان على تكراره ..الحزن يسكنني أبي.
ابنتك الجميلة كما كنت تصفها ، أصبحت تعيسة لا تجد من يمد لها يد العون لتصل إليك ، وهي توشك أن تغرق في ثنايا الحزن والألم ، لولا وجود الطيبين في حياتنا.
بعد موتك أبي.. فكرت أمي في جلب امرأة لتقوم برعايتي ، حيث أضحت منشغلة طيلة الوقت بالعمل فالعمل ثم العمل ، فلم يعد لديها وقت لتدبير شؤون البيت ولا حتى لمراعاة ظروف ابنتها الوحيدة.
بعد مرور أربعة أشهر وعشرة أيام على رحيلك يا أبي، كان ما فكرت فيه أمي ، جلبت لي امرأة شابة في متوسط العمر الذي لا يتجاوزه إلا القليل ، جعلت منها مربية لي ، تعودت عليها ، وبدأت أحكي لها عن ذكرياتي حين كنت صغيرة.
كيف كان الهدوء يخيم في أرجاء الغرفة؟
وأنا أتأمل في صمت زرقة السماء ، على كرسيي المتحرك ، أحملق من وراء النافذة ، وأسمع من بعيد زقزقة العصافير الصغيرة ، في انتظار عودتك من العمل.
أحن إلى طفولتي معك أبي.
أصف لها بعد هنيهة من التأمل في أيام وحدتي الأولى بعد رحيلك ، كيف زارني زائر جميل من صنف الملائكة المنزهين عن شرور بني البشر؟
وكيف استقبلته بأمل وابتسامة عريضة ، معبرة له عن فرحتي بزيارته ، وددت لو كان يتكلم معي كما أتكلم معه ، أحكي له عن آمالي في الخروج إلى الهواء الطلق ؛ لأعتنق الحرية التي أنا بأمس الحاجة إليها ، وكيف قلت له آنذاك دون وعي: ليت أبي يعود.
لكنه رحل وتركني وحيدة من جديد.
امتلأت عيناي بالدموع ، متمنية ألا يذهب ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه ، حاولت النهوض من على الكرسي ، تحركت وتحركت حاولت الوقوف على قدمي ، دون جدوى ، سقطت على الأرض فبكيت ، صرخت وصرخت لكن دون جدوى ، لم يستمع لصراخي أحد ، ثم تعبت من البكاء والصراخ إلى أن غفوت في نوم عميق.
حلمت بك أبي وقد عدت من عملك في المساء، لتجدني ملقاة على الأرض ، حملتني ووضعتني على سريري ، وخرجت مغلقا باب الغرفة في صمت بعد أن غطيتني وقبلت جبيني.
وفي صباح الغد وجدتك تداعب خصلات شعري موقظا إياي بصوتك الدافئ الرقيق ابنتي العزيزة استيقظي.
استفقت وتناولنا طعام الفطور معا وانطلقت إلى عملك.
فتح الباب وسمعت صوت المربية بسمة ينادي أريج.. أريج استيقظي ، حان موعد الفطور.
استيقظت وأدركت أنه كان مجرد حلم.
تناولت الفطور بعد أن أجلستني بسمة على الكرسي المتحرك ، وأخذت ما تبقى من طعام وخرجت من الغرفة.
وبينما أنا أتأمل مجددا في السماء الشاسعة ، زارني الزائر من جديد وعلت محياي تلك الابتسامة ، أصبح لي صديق ، يزورني كل يوم ، أحدثه عن أحلامي الصغيرة وعن أملي الكبير في الوقوف على قدمي من جديد.
وبعد رحيله ، أحكي لبسمة واصفة لها زائري قائلة: صديقي العصفور تعود أن يأتي لزيارتي وحده ، هذا اليوم جلب معه رفيقة، أتيا معا هذه المرة، تسللا ببطء بطيء إلى داخل الغرفة ، باحثين عن بقايا طعام ، أكلا حتى شبعا ، ولما اكتمل النزر ، طارا بعيدا خارج الغرفة ، حلقا في سماء خالقهما الزرقاء ، خالقهما يرزق من يشاء برحمته ، هو لا يترك أحدا من دون رزق، وأنا أتطلع إليهما اليوم ، رجوت خالقي أن يرزقني قدمين جديدتين، أنا دوما أخبر صديقي العصفور عن صديقتي القديمة، حزنت جدا لأنه لم يعد لدي صديقة ، أنا تلك الجميلة، أعيش وحيدة الآن ، في هذه الغرفة التي يجدها زائري كل يوم مخبأ كنز عظيم ، كنت أحكي له عن طفولتي ، أسترجع ما مضى من الزمن الجميل.
التفتت إلي بسمة وقالت: أنا أيضا كانت لي صديقة ، رحلت وتركتني وحيدة ، أتذكر كيف كنا أنا وهي نتقاسم طعامنا كل يوم في فسحة المدرسة أثناء الاستراحة اليومية ، ثم نقوم لنبدأ لعبنا ، هي تجري وأنا أجري وراءها ، ذات مرة كان الجو باردا جدا ، وزارتني في منزلي، و اتفقنا أنا وهي أن نخرج إلى الخارج للعب ، طلبنا ذلك من أمي ، لكنها خافت علينا من البرد وقالت بصوت دافئ ، الجو بارد جدا عليكما حبيبتاي ، لا تخرجا اليوم ، وظلا في الغرفة ، هي أدفأ وأأمن لكما ، لكننا لم نستمع إلا كلامها ، واتفقنا في سر على أن نخرج متسللتين إلى الحديقة التي كانت مجانبة لبيتنا ، كانت أمي منشغلة في المطبخ بتحضير طعام الغذاء ، كانت أمي ربة بيت مجدة ، وخدومة ، وحنونة مثل أمك تماما صغيرتي ، هي طباخة ماهرة ، ولكن بعد سفر والدي إلى الخارج للعمل وانقطاع أخباره عنا قررت هي أن تعمل لتتكفل بمصاريف البيت.
كانت لا تتوانى في تحضير كل ما لذ وطاب من طعام وعصائر نهاية كل أسبوع ، ليكون يومي السبت والأحد يوما عطلتنا المدرسية أحلى أيام حياتنا أنا وصديقتي.
مات أبي في حياتنا وإن لم نتأكد من موته ، كبرت وتغيرت أمي وتغير كل شيء ، انقلبت حياتنا رأسا على عقب، أمي أضحت مسترجلة ، لم تعد تعلم عني غير كوني أكلت ونمت في الوقت المحدد للأكل والنوم.
وأنا أحن إلى طعام أمي وعصائرها وأحن إلى طيبتها وحنانها، أحن إلى ماض مضى دون رجعة ،تمنيت في نفسي لو لم أكبر.
وهي تحكي لي هذه الأشياء ، تقول لي لا تفقدي الأمل في الحياة صغيرتي ، الكون جميل والحياة سنة من سننه وكذلك الموت.