كاتب(ة) : نوال الراضي
رزنامة
حملتها الأشواق إلى ماضيها ، بحثت في الأغراض القديمة التي جلبتها معها إلى بيتها الجديد، لتجد بينها دفتر ذكريات مراهقتها ، كيف كانت تخط فيه كل ما تتمنى أن يتحقق في المستقبل ؟، وقفت ومسحت ركبتيها من غبار الأرض أغلقت باب غرفتها واتجهت نحو الأريكة ، جلست وفتحت مذكرة مواعيدها المستقبلية -سابقا- .
في الصفحة الأولى التي أصبحت فيها أنثى كتبت عن يوم وصولها سن البلوغ ، عن آلام البطن والظهر وصداع الرأس والتقيآت المتقطعة، وعن ذاك الخوف ؛ من سبب نزول الدم منها، ظنا منها أنها ستموت ، تبسمت شفتاها ساخرة من جهلها بتغيرات المرأة آنذاك.
في الصفحة الثانية.. كتبت عن اليوم العظيم الذي حصلت فيه على الباكالوريا، وعن تلك الراحة التي ستجدها بعد انتهائها من الدراسة وتخلصها من التفكير في الغد ، خوفا من التأخر في النوم وعدم الذهاب إلى المدرسة ، والحاجة إلى مبرر الغياب ، وصعوبة إقناع ولي أمرها بالذهاب معها ليؤكد للمدير أنها كانت في البيت لا في مكان آخر فترة تغيبها ؛ توهما منها أنها ستخرج من دائرة الفقر، حيث انها كانت تحلم بولوج سلك الوظيفة العمومية في الدولة ، وتنتهي من طلب المال من أبيها لطبع الدروس ودفع ثمن بطاقة النقل.
واحسرتاه .. حصلت على الشهادة العلمية لا غير ، تبددت كل آمالها في إيجاد عمل، حتى أنها لم تجد من يعينها على دفع تكاليف الجامعة ، فأمها ربة بيت تقليدية لا شغل يشغلها غير تربية الأبناء ، وأبوها لا يزال وراءه اثنين من أخويها في التعليم الإعدادي ، ومصاريف الماء والكهرباء ، مصاريف البيت كلها على عاتقه ولا أحد يعينه عليها.
أما الصفحة الثالثة.. فكتبت فيها عن الفراغ الذي كان يقطع أوصالها في البيت بعد أن جلست دون عمل ودون دراسة ، كيف ضاع عقدها الأول في طلب العلم دون نتيجة؟ لم تتجرأ على الاعتراض ، بقيت في المنزل لا تتخطى بابه إلا برفقة أمها متوجهة إلى حمام النساء اللواتي لا شغل يشغلهن غير الحديث عن زوج فلانة، وابن فلانة الذي وجد عملا ويبحث عن زوجة تليق بمقام العمل، وعن فلانة التي ثلاجتها مليئة عن آخرها بالمأكولات ، وعن لباسها الذي يشتريه لها زوجها ، أحاديث النساء لا تنتهي ، تنوح في نفسها ساخطة على الأوضاع متمنية انتهاء أمها من البحث عن تفاصيل حياة الجارات ، وعن أولادهن ، لعلها تجد لابنتها عريسا يخلصها من العنوسة ، وما أن تنتهي أمها حتى ترتدي ملابسها بسرعة ؛ لتعود إلى البيت محملة بثقل هموم الحمام.
وفي الصفحة الرابعة.. بعد أقاويل الجارات في الحمام ، التي ترسخت رغما عنها في أذنيها ،كتبت عن حلمها بالزواج من شاب وسيم ، مثل ذلك الأمير الذي كانت تشاهده وهي صغيرة في الرسوم المتحركة ، يلبسها فردة حذاء الكريستال ، غني تختاره هي ، به كل صفات الكمال ، تقرأ كيف رسمت فستان العرس الأبيض الطويل ، وكيف رسمت أشكال المأكولات وحلوى الزفاف بسبعة طوابق ، وأشكال الحضور وهم في أبهى حلة يرتدون أفخم ما لديهم من الثياب ، وعيون مثيلاتها من الفتيات كيف تتطلعن إلى الجلوس مكانها في منصة العروسين، وصفت تلك الليلة زفافا أسطوريا تحلم به كل أميرة ، ولكن هيهات هيهات... لا شيء تحقق على أرض الواقع للأسف الشديد ، هي مجرد فتاة بسيطة تنتمي إلى الطبقة الكادحة ، لن ينظر إليها إلا كادح مثلها ..هذا إن قدر لأحد أن ينظر إليها.
وفي الصفحة الخامسة..كتبت عن قساوة أبيها الذي قرر تزويجها رغما عنها لرجل عجوز يقربه سنا ، من رجال المال والأعمال ؛ تحججا بأنها لن تعيش بسعادة إلا مع ذاك الرجل ، فهو قدرها ومصيرها الأبدي وسيكون سبب سعادتها.
وكان ما كان ، تزوجت به ، أو بالأحرى اشتراها بماله ؛ ليستعبدها بين جدران بيته الكبير الذي اجتمعت فيه أربع غرف ، لزوجاته الأربعة هي وثلاثة أخريات ، شر الأولى ينسيها شر الثالثة ، وشر الثالثة ينسيها شر الثانية ، مخالفة لشرع (اعدلوا هو أقرب للتقوى) ..هو لم يعدل ، لا معهن ، ولا مع نفسه ، هو كان يعلم أنه لا يستطيع الإنجاب ، ومع ذلك.. يساير شيطانه ويرفض الذهاب إلى الطبيب مع زوجاته الأربع كل واحدة على حدة ، تلمح له عن تأخر الحمل ، يسكتها بكلماته ، حين يريد الله أن يحصل حمل سيحصل إن شاء الله .
يمر الوقت بسرعة ، يتأمل السنين لعلها تجود بالأولاد دون دواء.
وهن لا يرضين بالرجوع إلى بيتهن الأصلي ؛ خوفا من الجوع وكلام الناس ، فصفة مطلقة تجر على صاحبتها الويلات.
عاشت في زمن القهر والذل ، في دائرة مغلقة شعارها ولي الأمر ، والقاصرات عليهن الطاعة ، مواعيد أحلامها لم توافق مقتضيات العصر ، حقوق المرأة من حرية ومساواة أبت إلا أن تحيد عن طريقها هي بالذات ، عكس بنات الجيران اللواتي تزوجن من شباب في عمرهن ، لتبقى حبيسة تواريخ الحاضر ، غسيل وأواني وطبخ وعجين كل يوم ، أصبحت خادمة في منزلها تنفذ الأوامر العليا باعتبارها الزوجة الصغرى ، تخشى العودة إلى بيت أبيها .
هي لا تطيق الفقر ولا تطيق كلام الناس بذريعة ما مسماه ......(العادات والتقاليد لا تسمح).