كاتب(ة) : نوال الراضي
هروب
عسعس الليل.. تطلعت إلى السماء في الظلام الحالك تنظر إلى النجوم المتلألئة ، تسترجع الذكريات المفقودة ، كيف كانت تلعب مع الصبيان؟.. يطرقون أبواب المنازل ويهربون، كيف كانوا يلعبون بالخمسة أحجار؟.. يضعونها على ظهر اليد ليحاولوا إمساكها كلها بالكف بعد رميها ، وتلك العملة النقدية التي لم يكونوا يعلمون قيمتها البخسة ، كيف كانوا يرمونها في السماء ويتكهنون سقوطها على الأرض باختيار أحد الوجهين(ملك-عرش) ؟ ، ولعب أخرى كانوا شغوفين بها إلى حد أنها كانت تنسيهم مواعيد الطعام والنوم.
كيف كانت تهرب من بنات الجيران بعد أن تجر خصلة من خصل شعرهن ؟ ،اقتداء بمن كانت ترافقهم من المشاغبين من أبناء الحي.
كانت فتاة مسترجلة منذ الطفولة، لا تصاحب إلا الذكور ، وتهرول مسرعة نحو بيتها مستنجدة بأمها ، ماما ، ماما ، ماما ... لتفتح لها أمها الباب، وتختبئ الأخيرة ورائها ، تغيض من جرت خصلة شعرها بإخراج لسانها من شفتيها ، ضاحكة ضحكة النرجسيين (هاهاههاها) بصوت طفولي.
توقفت الحافلة في آخر محطة والصبح لم يتنفس بعد ، شعرت بالخوف الشديد من النزول ، أين ستولي الأدبار؟ ،هي لم يعد لديها أحد بعد وفاة أمها ، الرجل الوحيد الذي عرفته في حياتها كلها استحوذت عليه أخرى ، أنسته معنى فلذة الكبد .
أين ستحط الرحال؟ ، هي لا تعرف أحدا في المدينة ، هي لا تعلم شيئا عنها ، لا أبواب ولا نوافذ ، لا أقارب لها ، ولا مسكن يأويها.
ليرسو قاربها في ميناء التمثيل... اصطنعت النوم ؛ خوفا من الظلمة وما يخفيه المجهول ، نزل ركاب الحافلة أجمعين وبقيت هي وحيدة وسط الكراسي الفارغة ، أغمضت عينيها وبقيت حالمة بالأمان داخل الحافلة ، مستشعرة حلاوة الفضاء المغلق الذي لا يعتريه صراخ ولا ضرب ، وسرعان ما غفت عيناها التعيستان ، نامت متمنية من صميم قلبها ألا تستيقظ قبل طلوع الشمس.
بزغ فجر يوم جديد وهي لا تدري ما لونه ، استفاقت على صوت مراقب الحافلة ، مرافق السائق الذي يتولى جمع بقايا طعام المسافرين ونفاياتهم وتفقد بعض حوائجهم المنسية.
اقترب منها ، وهمس بصوت خافت في أذنها: أختي.. أختي لقد وصلنا قبل ساعات لم لم تنزلي؟!
هو الآخر يتصنع الجهل ؛ خوفا عليها من الانكسار بعد أن بدى له مسبقا واقع حالها حين كانت تسأله مرارا وتكراراخائفة: هل هذه آخر محطة؟ هل هذه نهاية المسير؟
يسترجل كلامه بسرعة: لقد بقيتي في الحافلة ، ولم أشعر ببقائك فيها ، يلمح لها أنه يعلم ، والشمس الآن ، يمكنك النزول من الحافلة.
نظرت في وجهه وتمتمت بكلمات متقطعة: أوصلنا؟ ، حسنا .. حسنا ، سأنزل ، غفوت ولم أشعر بالوقت ، سأنزل الآن. حقيبتي أين هي حقيبتي؟
مازالت في صندوق الأمتعة ، لا تقلقي ، هي في الحفظ والصون -رد عليها- ، تأكدت أنه علم أنها أغمضت عينيها متعمدة ؛ كي لا تنزل ، نظر إليها وهدأ من روعها: (لا تخافي) ، أنت في أمان ، (أنا لم أرد أن تضيعي وسط الظلام الحالك ، فلم أوقظك من النوم وتركتك في الحافلة؛ لتطمئني أكثر).
نزل من الحافلة ونزلت ورائه ، أعطاها الحقيبة ، وهو ينظر في وجهها وكأنه يسألها أين ستذهبين؟ ،و الهم باد على ملامحها، سألته: من فضلك هل ترشدني إلى أقرب فندق هنا؟ وليكن ثمنه مناسبا أرجوك .
بادرها بالجواب: يا بنت الكرام .. فنادق المحطة لا تليق بفتاة مثلك ، لماذا أتيت إلى هنا؟ أجابته بكل ما أوتيت من قسوة: وما شأنك أنت ؟ ،لا تتدخل فيما لا يعنيك .
كلمات جرحت مشاعره ، سرها يوسف في نفسه بعد أن شعر بضيق شديد ، كظم غيظه وطأطأ رأسه مرددا كلمة: آسف أنا آسف.. أردت مساعدتك فقط.
خانتها قساوة قلبها ، استدركت الموقف بدموع نزلت من عينيها وكأنها مطر يهطل ، أنا أبحث عن عمل .
أصر على إنقاذها من براثم المتربصين بالفرائس التائهة فقال لها: العمل في زمننا هذا لم يجده حتى الرجال ، ماذا ستعملين؟! في مدينتنا هذه لا يوجد عمل لك ، ستخسرين ما معك من نقود في دفع أجرة الفندق قبل أن تجدي عملا -صدقيني-.
صمت... وتنهد يرثي حالها ، ثم تنفس بعمق واستجمع قواه ليخبرها أنها ستضيع كما ضاعت فتيات قبلها ، هذه المدينة ليس فيها ما يسر خاطرا ، نهارها ليل ، وليلها نهار ، الناس فيها نماذج ، متسكعون في الشوارع ، ومتشردون يتوسدون الطرقات ، وسكارى تتلاوحهم الجذران ، وهاربات تائهات بلغن الحضيض من الأخلاق في زمن طغت فيه الماديات ، دينهم وديدنهم الضياع ، وما خفي كان أعظم. تمتمت شفتاه عودي من فضلك ، عودي إلى أسرتك ، فهي أمانك الوحيد ناسك الذين يعطون دون أن يأخذوا.
قالت في قرارة نفسها: هذا يظن نفسه في زمن عزيز مصر ، لم يعد في القوم يوسف ، هو لن ينفعني بشيء ، لم تعر كلامه اهتماما ، حملت حقيبتها وانصرفت ، توجهت نحو الباب ، لفتت انتباهها عبارة (الخروج ) ، والمقصود بها باب الخروج من محطة المسافرين ، ولأن جوهر الكلمة أحدث في نفس سعاد خدوشا وتصدعات جراء أقاويل يوسف ، تساءلت: ماذا بعد الخروج؟ ما الذي يوجد خلف ذلك الباب؟!
خرجت من الباب ، قطعت الطريق إلى الجهة الأخرى من الشارع بعد أن ألقت نظرة عما حولها ، لم تسعفها إلا عبارة فندق المحطة يرحب بزواره الكرام ،و التي التقطتها عيناها على لافتة حديدية صدأة بدأت جوانبها تتآكل دليلا على قدم التاريخ فيها ، متذكرة حيها الذي يعتبر حيا من أحياء الملاح العتيقة التي أقام بها اليهود قديما.
استجمعت قواها ودخلت لتجد في استقبالها صاحب الفندق الصغيرة جدا مساحته يعمل فيه شخصيا.
ألقت عليه التحية ، ورد هو بالمثل ، بادرت لسؤاله عن ثمن الغرفة مظهرة عن غير قصد أزمتها المالية ، وحالتها النفسية التي هي عليها من جراء الغربة والخوف.
تبسم سليمان ضاحكا - وليس سليمان هذا كسليمان ذاك المذكور في التنزيل - مظهرا حفاوة استقبال الزوار: مرحبا.. مرحبا بوجه ملائكي أطل علينا ، أهلا وسهلا..أنا في خدمة حضرتكم ، إن لم تحملكم الأرض حملتكم الأكتاف ، كشر الذئب عن أنيابه بسرعة فائقة ؛ ليدلو دلو أمثاله من أصحاب الفنادق ، لا توجد غرفة بسرير واحد ، امتلأت الغرف الفردية عن آخرها ، ولكن الغرف المزدوجة موجودة.
هذا ما اتفقوا عليه وجرى به عرفهم.. لا غرف فردية قبل أن تمتلئ الغرف المزدوجة ، كذبهم لا ينتهي ، يكررون المعلومة في اليوم مئة مرة.
لم تخف خوفها من عدم وجود مكان يأويها ، وقررت استئجار الغرفة المزدوجة لحين خلو الفردية.
طلب منها بطاقة الهوية ، وهي لا تدري أ لحسن الحظ أم لسوئه ليست لديها بطاقة تعريف؟
أجابته بصوت صاغر ، أنا لا أحمل بطاقة تعريف ، لم أصل السن القانوني بعد لاستخراجها.
أمال رأسه ذات اليمين وذات الشمال متحسرا عن عدم قبول تأجيرها الغرفة ؛ متحججا بسلطة القانون ، دورية الشرطة تأتي كل ليلة إلى الفندق لتأخذ أسماء النزلاء ورقم بطائقهم ؛تقصيا عن سجلهم العدلي -رد قائلا- ، وموضحا لها: أنه لا يستطيع استقبالها دون بطاقة ، وأن لا أحد سيستقبلها في أي فندق من فنادق المدينة ، فالقانون يسري على الجميع لئلا تتعب نفسها بالبحث .
أضعف همتها بكلماته فخارت قواها وطمست معالم الأمل بقلبها ، وأخيرا انحنت بكل انكسار سائلة إياه بحق كل عزيز عليه أن يساعدها ويرشدها ولو بإشارة بسيطة إلى حل ما.
سألها عن اسمها ، وسنها ، وعمرها ، ومستواها الدراسي محاولا جس نبضها إذا ما كانت مدركة لما يجري حولها ، وحال لسانها يبوح باسمها وسنها بل زادت عنهما سبب هروبها من بيت لم يعد لها فيه أحد ، سذاجتها ، أو ربما جهلها بمرارة الواقع جعلها تبوح بقصة حياتها لمن لا ثقة فيه ، وما المعمول غير قص الحكاية من البداية ؟ ،قصة حياتها القصيرة من أولها إلى منتهاها ، تفاصيلها الصغيرة والكبيرة سردتها لذاك الذي توسمت فيه خيرا ، وتوسلت إليه لمساعدتها ، خصوصا بعد علمها أنه صاحب المأوى الذي سيأويها ويقيها برد الشتاء القارص.
أنا سأبحث عن عمل ، هذه هي الجملة الوحيدة التي ما فتئت ترددها على مسمعه، وكأنها تسأله بطريقة غير مباشرة مساعدته.
فهم هو القصد من كلامها ، ولم يردع نفسه من رغبته التي غمرته في التهام اللحم الأبيض ، لفظ جاري به العمل في عالم الغرائز والشهوات ،هذا ما يتداوله الرجال فيما بينهم ، لحم أبيض ، لحم طري ، اللحم اللذيذ...عبارات ملغومة لا يدري معناها غير المحترفين في مجال اللحوم ، خصوصا وأن لون بشرتها الذي يشبه لون الزبدة الأصلية الأصيلة ، وعيناها الزرقاوان ، وشفتاها الورديتان الممتلئتان ، وقدها الطويل ، وعظمها الذي اكتنز لحما...وصفات أخرى يكتشفها المتفننون في معالم الجمال ، هذه الصفات وغيرها مما يثير أبصار الناظرين ، جرته إلى الطمع في امتلاك جسدها ،حاول إخفاء شعوره في التغزل بجمالها وتمتم بكلمات أنا أخاف ، أخاف عليك من الذئاب المفترسة بالخارج ، لازلت صغيرة عن العيش وحدك ،لذا سأساعدك ، أنا سأقوم بإبقائك هنا عل أساس تشغيلك عاملة تنظيف لدي في فندقي إلى حين ، شريطة ألا تكلمي أحدا من الزبائن ، لا عن نفسك ولا عن حياتك ، لا من أنت ولا من أين أتيت ؟ ،وألا تنزلي من الطابق العلوي إلى الطابق السفلي لغير التنظيف ، تفاديا للمشاكل ، لا تجيبي أحدا إن سأل ، فقط أشيري بإصبعك إلي فأنا المسؤول الوحيد هنا ، وإن اقتضى الحال تصنعي أنك بكماء ؛ لئلا يعلم أحد قصتك فينشرها ، فالأخبار في هذه المدينة تنتشر كما تنتشر النار في الهشيم ، وأنا لا أريد مشاكلا مع الشرطة ، كما أنني -مبدئيا فقط- لن أدفع لك مقابل عملك غير السكن في غرفة على السطح ؛ تنامين فيها ، وتجلسين للراحة وللطعام الذي ستطبخينه بيديك بعد أن أحضر لك ما يستعمل للطبخ في كل وجبة ، وهذا مقابل ما ستقومين به من أعمال التنظيف.
وافقت هي والفرحة تملأ عينيها ؛ شاكرة إياه على جميله معها الذي لن تنساه ما تبقى من عمرها ، وأنها مستعدة للعمل عنده دون مقابل.
صعد على الدرج متوجها نحو السطح وهي تتبعه إلى أن وصلا إلى الغرفة التي ستقيم فيها ، فتح لها الباب وبدأ بإعطاء توجيهاته فيما يجوز وما يستحيل فعله (ممنوع تحويل أي شيء من مكانه وممنوع صب الماء في الغرفة لأن ما فيها من أمتعة من اللوحات الخشبية والصور الفنية القديمة تعتبر أثرية بالنسبة للزبائن من السياح الذين يطلبون شراءها ، نبهها إلى قيمتها المالية الثمينة وائتمنها عليها ، مفتخرا بينه وبين نفسه بمكره وذهائه ؛ كل هذا لكسب ثقتها.
بعد أن خصص لها زاوية سفلية من الغرفة لتنام فيها ، وتضع فوق رأسها حقيبتها ، أعطاها أفرشة مهلهلة لتضعها واحدا فوق الآخر وتنام عليها ، ولحافين صوفيين غاية في الخشونة لتتغطى بهما ، تركها ونزل إلى الطابق السفلي وكله آمال في اقتراب اللحظة التي يستفرد فيها بتناول كعكة الحلوى اللذيذة.
نفضت الغبار عن الأفرشة ووضعتها على الأرض ، جلست متكئة على حقيبة ملابسها ، وبدأت تتمعن النظر فيما يحيط بها من أفرشة وأغطية وأشياء أخرى غريبة تصغر أحجامها تارة وتكبر تارة أخرى.
للوهلة الأولى تهيأ لها أنها في مخزن ضخم يضم كل الأشياء القديمة: تماثيل بأحجام مختلفة وأعداد غير محصية مكبوبة هنا وهناك ، وألواح خشبية لعلها من عهد موسى مخطوطة بخطوط غريبة مصفوفة بعضها على بعض ، أين هي من مضامين تلك الألواح وكأنها كتبت بلغة الجن؟ ، مخطوطات قديمة على ورق البردي العتيق ، أكلتها دودة الأردة في انتظار من يفض عنها الغبار ويخرجها إلى الوجود... (على ما يبدو الرجل يتاجر في كل شيء).
عاد إليها بعد مرور ساعتين من الوقت تقريبا حاملا بين يديه أكياسا بها طعام جاهز فرش غطاء فوق المائدة المستديرة في جانب الغرفة الأيمن ، وبدأ يستخرج الطعام ويضعه عليها ، وهي تنظر بشوق لوضع لقمة في فمها ، شاهدت الدجاج المحمر والبطاطس المقلية وسلطة الخضار والليمونادة والفواكه ،كل ما تشتهيه نفس محرومة، كان يعلم مسبقا أنها ستنبهر بما جلبه من خيرات، ومطامع البطون لا يعبر عنها إلا ما أسرته في نفسها: ما هذا يا لهفتي إلى تذوق النعمة؟ ، وأخيرا ستتناول الطعام بعد رحلة تشبه رحلات قريش ، يعتريها الجوع والخوف ، رأى التلألأ ظاهرا في عينيها من شدة السعادة، وحرك الكرسي مناديا عليها باسمها سعاد تعالي واجلسي ، لا تخجلي .. من الآن فصاعدا أنا وأنت ستناول الطعام على مائدة واحدة ، لم تنطق بكلمة جلسا معا سبقها إلى قطع فخذ الدجاج ووضعه في جهتها قائلا: خذي كلي ..اعتبري نفسك في بيتك الآن ، أنا منك وأنت مني -ملك لي-(هذا ما يسر به هو في خاطره ، وهذا ما كان يقصده في قرارة نفسه تماما) . انتهيا من الأكل ، جمع بقايا الطعام ، ورفع الغطاء عن المائدة ، ونزل تاركا إياها لترتاح من تعب السفر.
مر اليوم بسرعة ، وحل الظلام من جديد ؛ لتجده صعد إليها وفي يده وجبة خفيفة للعشاء ، أعطاها الوجبة وانصرف ؛ لتعبيد الطريق إلى ثقتها به ، مساها بخير ، متمنيا لها شهية طيبة ، ونوما هنيئا دون أن ينسى تذكيرها بوجوب الاستيقاظ باكرا غدا موعد بدء عملها رسميا.
أغمضت جفنها لتنام في أمان، منتظرة ما سيجود به الغد من نعم.
تداخلت الأيام في الأسابيع إلى أن اكتمل الشهر ثلاثون يوما بالتمام والكمال ، تنام لتستيقظ وتستيقظ لتنام ، وبين الاستيقاظ والنوم تقوم بعملية التنظيف بأكملها بعد أن تضع على رأسها غطاء ، وترتدي في يديها قفازات كما أمرها ؛ تنفض الغبار عن الجدران ، وتنظف الأرض والدرج بالماء كلما اقتضت الحاجة ، وتغسل أفرشة الغرف التي بلغت من الاتساخ مبلغا.وهو طيلة الوقت يرتدي قناع القداسة ، يعاملها معاملة الملائكة إلى أن بلغ سيله زباه ، فقرر آخر ليلة في الشهر أن يضع لها منوما في العصير ، واستفرد بها في الغرفة المعلومة ، خلع ملابسها على مهل ، ومتع ناظريه بلون جسدها الأبيض ليلصقه بجسده الأسود بعنف ، كمم الشفاه بالشفاه ، وهي فاقدة للوعي لا تحس ملمسه. كان ما كان ، وقضي الأمر الذي كان يستفتي فيه أيامه ، فض الغشاء ، ورأى بقعة الدم تنزل على الغطاء.
في الصباح استيقظت على ألم صداع رهيب على مستوى الرأس ، وجرح دقيق على مستوى ما بين الفخذين ، نهضت لتجد نفسها عارية الجسد ، لم تعلم بماذا ابتليت ،ومن جراء هول الصدمة صرخت بعمق.. (لا.. يا إلهي) ، صعد إليها مهرولا ، ووضع يده على فاهها ضاغطا اصمتي.. اصمتي ، ستفضحيننا ، الفندق مليء بالزبائن ، اهدئي.. لم يقع شيء ، لا زلت حية ، هذه الأمور جار بها العمل عندنا ، وظنا منه أنه سيخيفها ، أخبرها أن مغفر الشرطة قريب جدا من الفندق ، بإمكانهم أن يأتوا في أية لحظة ، قال: إنها لن تربح شيئا إن ذهبت لتشتكيه ، بل إنها ستخسر كل شيء إن خرجت على باب الفندق (المأوى والمأكل) ، خيرها بين الرحيل أو البقاء على نفس المنوال الذي ضلت فيه ثلاثين يوما مضت ، صمتت ولم تجاره في الكلام ، كظمت الغيض الذي في نفسها ، وكبتت صوت الصراخ الذي يعصر روحها ، أنينها لم يبلغ عنان سقف الغرفة ، صمتت لحاجة في نفس يعقوب يعلمها الله.
ما هي إلا ستة أيام من البناء والتخطيط حتى تربصت له بالمرصاد ، في اليوم السابع في وجبة العشاء تناولا الطعام معا ، و بدل المنوم وضعت له سم الفئران في الطعام ، العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم . بدأت هي تتناول السلطة ببطء ، بينما هو انغمس في الأكل بشراهة ،سقط أمامها طريحا.
كممت فمه بلاصق بلاستيكي لئلا يصرخ ، وبقيت تنظر إليه وهو يتأوه من شدة الألم ، أمعاءه تتقطع وهي تقول له: الآن.. ذق العذاب بما صنعت يداك.
حملت حقيبتها ليلا ، وتركته يودع تماثيله ولوحاته الثمينة في نهاية تراجيدية.
جرت إلى المحطة من جديد في ليلة ظلماء وهي تردد أين المفر؟
أولها هروب... وآخرها هروب.