كاتب(ة) : ريمان خالد الحرازين
الفَزّاعة
إنّه الصباح يا أيلو، هيّا.. جمّع قواكَ واستيقظ، ساعتُك ما زالت تدق وأنتَ في نومٍ عميق، ثابتٌ كأنك لا تلوي على شيء.
من بين عالمٍ كبيرٍ من الطيور، وهمهماتٍ جماعية، كُلٌّ منهم يُحدّث الآخر بلغة لا يفهمها غيرهم، عدا أيلو، أيلو الصغير الذي جاء إلى هذا الوكر وحيداً.
عندما كان متكوراً حوَل نفسه في البيضة، سمع أطراف الحديث الذي دار بين والديه، كانا يعُدان الخطط ليتنعم صغيرهم بحياة الرفاهية.
لقد كان أيلو متنبهاً لكل شيءٍ يطرحانه في قائمة الأشياء التي يجب أن تتوقف أو تُضاف، وأَحَبَّ كثيراً تشوّقهم الدائم لرؤيته.
كان والدي أيلو يستقيظان كل صباح، يتدربان على الأبوة، يستمدان من قوة بعضهما البعض؛ ليكونا خير والدين له.
أيلو الاسم الذي اختاره والده، حيث ضحكت أُمّه قائلة :
- هل سيحمل ابننا اسماً كهذا؟
- لِما لا، يجب أن يكون مختلفاً دائماَ، وأن يحمل اسماً لا معنى له؛ كي لا ينتمي لشيء، لا ينتمي لأحد.
أطرق أيلو السمع وهو داخل البيضة لكلمات والده، وقعت الكلمات على قلبه الصغير الذي لم يعِ لكل ما يحدث حوله.
قرر الوالدان أن يبنيان عشاً جديداً على شجرة أعلى؛ ليحميا نفسيهما وطفلهما من شر الهِر الماكر، الذي لم يلبث أن يتربص لهم، ويشن هجومه عليهم.
لقد رآهم الهر يهمون ببناء عشاً جديداً، اختفى عن الأنظار؛ كي لا يُحْدِث ضجيجاً حولهم.
ذات يوم.. وعندما غادرت الشمسُ السماء، جلس الطيران الوالدان بعد تعب شديدٍ وإعياء، لقد أنهكهما البناءُ حتى أنهما لم يقدران على تأمين المكان من حولهم، غطت الأم البيضة، وذهبا في نومٍ عميق، نومٌ يتبعه رحيل دائم بعد أن هاجمهم الهر ورحل.
في الصباح التالي، إنه الصباح الأول لأيلو داخل البيضة وحيداً، لا أحد ينتظر في الخارج، لا يسمع طرقات والديه يستعجلانه على الخروج، إنه الصباح الأول بعد الفقد، أيلو وحيداً على شجرةٍ داخل بيضة لم يحنْ موعد كسرها.
لقد أكل الخوف قلبه، لم يعتد على عدم سماعهم، علل غيابهم المُفاجئ، حاول كثيراً أن يناديهما، لا أحد يجيب، لقد غابا دون رجعة، من لهذا الطير الصغير بعد الآن؟
قام أيلو بركل البيضة؛ لتتكسر، لكن.. جسده الصغير لم يساعده، فحاول مراراً أن يفعل صارخاً، حتى رقّت قشور البيضة على حاله، وتَكَسَّرت من فورها.
أغمض أيلو عينيه من قوة شعاع الشمس، ثم فتحهما رويداً رويدا، تلفت يمنة ويسرة، لم يرَ وجهَ أحد، كان متأملاً بأن يكون هناك أربع عيون تحدق به، ثم تعم الفرحة أرجاء العش، لكن.. لم يحدث، لم يجد سوى اثار الريش، انهمر بالبكاء، تَثَقّل قلبه ثم نام وهو يرتجف.
استيقظ أيلو على يدين تحملاه، لقد كانت طائرة من نوع الحباري، قلبها مليء بالحنان، غمرته في حضنها وأخذته معها.
من هنا.. بداية حياة أيلو مع غير والدته التي تمنى لقائها، كانت طائرة الحباري تعتني به كثيراً، وقد غمرته بحبها، وبدأت تعليمه الطيران، وتَبتهج كلما تمكن من فعل شيء، إلا أنها ليست أُمه.
في كل صباح تستيقظ طيور الحباري نشطة، ثم تغادر بحثاً عن الطعام والشراب، واعتاد أيلو الطيران معهم، وزيارة الحقول والوديان، وذات يوم.. وبينما كان يتجول بين الحقول، وصل الى حقلٍ كبيرٍ مليء بأنواع شتى من المزروعات والأشجار، ووسط الأشجار فزاعة.
صاحبُ الحقل وضع الفزاعة؛ لتُخيف الطيور، ورسم لها ملامح جميلة، عينان واسعتان، وابتسامة ساحرة، لم تقترب أيّ من الطيور من الحقل، كانوا يهابون الفزاعة ظناً منهم أنها إنسان.
أيلو الصغير لم يخف، ظل يقترب منها بترقب، يقترب وقلبه يكاد يسقط خوفاً، لكنّه تجرأ وصار وجها لوجه، نظر الى عينيها، كم هما جميلتان وواسعتان، ألقى التحية.. ثم وقف على كتفها، عرّف عن نفسه، وانتظرها تحدثه، طال الانتظار.. ولم تنبس ببنت شفة، أخذ جولة في الحديقة، وأكل من الأشجار ثم عاد لكتفها، وصمتها ما زال قائماً، إلا أنّ أيلو كان يقطع الصمت دائماً بحديثٍ عذب، بدأت الشمس بالغروب، استأذنها بالعودة، ووعدها أن يعود لزيارتها غداً.
تنفس الصبح.. استيقظ الصغير مبكراً على غير العادة، وبدأت رحلة البحث عن الطعام عند الطيور كافة، أما أيلو تجهز لزيارة الفزاعة التي أطلق عليها اسم أرتيلا.
وصل أخيراً واعتذر عن التأخير " لقد كنتُ جائعاً قليلاً؛ فلم أقدر على الطيران، ناولتني طائرة الحباري طعام الافطار ومن ثم سمحت لي بالطيران، أعتذر لقد تأخرتُ عليكِ يا جميلتي، ألن تُحدثيني اليوم أيضاً؟ لكنّ لا بأس.. سأتحدث، هل أخبركِ عن شيءٍ ما؟ لقد أحببتُ التجوال لأجلكِ، كنتُ كَسولاً للغاية، أشعر أن هرمون النشاط لديّ تَحرك، فقط عندما اقتربتُ منكِ دون خوف ".
ظلّ أيلو واقفاً على كتف الفزاعة، حدثها عن حياة الطيور، وعن المصاعب التي يتلقونها كل يومٍ، عن عشهم، ونومِهم فوق الشجر.
هل تنامينَ وحدَك في هذا الحقل الواسع؟
بَقيَ السؤال معلقاً دون إجابة، مثل باقي الأسئلة، لم يعِ الصغير أنّ الفزاعة مُجرد خشبة، تقفُ دون حِراك، فقط تُرعب الطيور المارّة، وتمنعهم من أكل أوراق الاشجار.
استمر الحال لمدة أسابيع، أيلو يتحدث وأرتيلا صامتة جامدة، حتى أنها لم تلتفت إليه، تحدق في الفراغ، تَمنّى أيلو لو أنّه فراغاً لتحدق به كل هذا الوقت.
تعلَّق أيلو بها، وصار يزورها يومياً، يطمئن عليها ويغني أغنيته المفضلة التي سمعها يوماً من والديه وهو داخل البيضة.
هيّا يا أيلو الجميل
فلتطير بين الأشجار
غني وارقص يا صغير
كي تحلو بنا الأعمار.
في الصباح الأخير من عمر الفزاعة، حيث تنبه صاحب الحقل لزيارة أيلو، عَرِف أن فزاعته الباسمة لم تُرْعِبه، فقرر ازالتها ووضع وجهاً أكثر رُعباً.
هذا الصباح الذي لم يتمناه أحد، طار أيلو متوجهاً إلى الحقل، رأى بأُم عينيه يدان مخضبتان بالوحل، تقتلعان الفزاعة من الأرض، تجرانها بين الأعشاب، ثم بكل قسوة تلقيانها بعيداً.
صُعِق أيلو من هَول ما رأى، لِما لا تُدافع أرتيلا عن نفسها؟ كيف سمحت له بإهانتها؟ اقترب منها باكياً، يا جميلتي.. لم تعودي واقفة كي أستند عليكِ، ثُم انهمر بالبكاء.
وصلت طائرة الحباري أخيراً، رَقَّ قلبها لحاله، احتضنته وانتشلته من همه العظيم..
- لم تَكن إنسان أو ما شابه، إنها مُجرد فزاعة، خشبة تُغطى بالملابس توهمنا أنها شخصٌ ما؛ كي لا نقترب من الشجيرات.
اعذرني يا صغيري.. هذا خطأي من البداية، لقد كان واجباً عليّ أن أخبرك بأمرها.
نحن لا يحق لنا أن نقترب من أحد، عالم البشر مُخيف جداً، ونحن نُحب الحرية، ونسعى إليها بكل قوتنا، سنبقى أحرارا أينما حَللنا، لا تُصدق العيون الجميلة، والابتسامة الهادئة، إنها فخ، لا تُضيّع نفسكَ، فتكون أسيراً بين قضبان قفص، في منزلٍ لا يريدون منكَ شيء سوى أن تطربهم بصوتك الساحر، لا تكن كذلك.
مدت الطائرة يداها إليه، إشارةً منها بموعد الرحيل، مَدَّ يده على مضض، حَلّقا عالياً، وقلبه على أرتيلا المسكينة، لكزتّه قائلة: إنها لا تعي شيئاً، ليست سوى فزاعة، وابتسمت له، بادلها ابتسامة خافتة ورَحلا عائدَين الى الوكر.