كاتب(ة) : ريمان خالد الحرازين
شاي النعناع
كالعادة وفي كل صباح ، تقوم تلك السمراء ؛ لتجهز فطورها وشاي النعناع ، تجلس وسط البيت تحتسيه رشفةً رشفة ، ترتب منزلها البسيط ، تترنم وتعود بذاكرتها للوراء قليلاً .
هذه الفتاة التي اعتزلت الجميع ؛ لتعشق وطنها وحده ، وكأنه شخصٌ عادي مثلنا .
كلّما سُئلت : لِما كل هذا الحب ؟
أجابت : وهل هناك أجمل من عشق الوطن ، العاشق الذي لا يخون أبدا .
تبدأ رحلتها اليومية بتصفح الكتب والمجلات ، تستمع لنشرة الأخبار ، يزيد ألمها كلما زاد ألم وطنها ، ذاك الوطن الذي يعيش بها وبقلبها ويؤلمها .
صاحبة العينان الواسعة ، كل من ينظر إليها يرى في عينيها بريق حزن .
لا شيء سوى ألم الفراق ..
كانت تبحث عن عمل ، حتى حصلت على عملٍ بسيط في مطعم للسمك على شاطيء البحر ، فَتمت الصفقة وبدأت عملها من صباح هذا اليوم .
تنظر الى البحر وتستنشق هواءه ؛ ليعيدها الى ثباتها، الى الفتاة التي لم تشكُ يوماً ، ولم تبكِ.
في اليوم التالي، وكعادتها في الاستيقاظ مبكراً ، وشرب شاي النعناع ، كانت سعيدة جداً، هذا اليوم ، لربما رأت حلماً جميلاً ، لا تدري .
وصلت للمطعم ورتبته ، ثم انتظرت قدوم الصياد ؛ لتباشر عملها .
عندما تشاء الاقدار للالتقاء ، لا تمنعها أيّ قوة ، كهذا القدر العظيم الذي جمعها به ، في هذا الصباح ، عندما دخل حاملاً عبير الماضي وعطر النسيان .
طلب شاي النعناع ، أحضرته على الفور ، وبدأ بشرب الشاي بينما هي تتصفح الجرائد.
سألها :"هل من جديد ؟"
- لا ، لا شيء سوى أننا ما زلنا نهوي الى الأسفل ونسقط أكثر وأكثر ، ما زالت البلاد تضيع منّا ، وتُسْرَق من بين أيدينا ولا نحرك ساكناً .
- هذا ما يحدث كل يوم ، نستيقظ ونخرج ونعمل ونلهو ، وما زال يحدث ..
(( أنا من هناك ، من هذه الأزقة الضيقة ، وشجرات الليمون والبرتقال ، ولِدتُ بينها ، وكَبْرتُ على عطرها ، أخشى الموت في الملاجئ ، أحب الموت تحت زخات الرصاص ؛ ليرانا العالم إذن ، ليعلم أنّ هذه البلاد لن تموت أبداً ، ما دام فيها من لا يخاف الموت ))
سقطت من جيبه صورة لفرن طابون وعجوز تخبز الخبر ، رائحته الشهية فاحت في الارجاء ، ما زالت الصورة ممتلئة برائحة الحب ، تناولها عن الأرض ودسها في جيبه ، دسها بقوة كأنه يأمرها بالبقاء هناك ، داخل الجيب العتم ، حتى يحين موعد اللقاء مع هذا الطابون ، وتُزال تلك العتمى عن الوجود .
نظر لعينيها ، وجد فيهما شوقٌ كبير وفضول ، أخرج الصورة للفضاء وقال ، هذا منبتي ، وهذه جدتي ، لقد دمر العدو كل شيء ، قتلوها وأنا بين يديها أصرخ ..
لم يتسنى لهما الأمر كي يتناقشان أكثر ، فقد وصل الصيادون ويجب أن تعد الطعام .
أعدت السمك الشهيّ وزينته بأنواع من الخضراوات .
انتهى العمل ورحلت إلى منزلها الصغير ، بدأت تتجول فيه غرفة غرفة ، لعلها تجد أحداً ينتظرها ، تمشي وتسمع صوت ضحكات عائلتها التي كانت تعم الأرجاء ، لديها حنين لأبناء أختها المغتربة ، وقلبها منطفىء شوقاً لأخيها أيضاً ..
في الصباح التالي ، ما زالت العصافير تغني أنشودة الصباح وتتنقل بين الشجر ، عصفورٌ واحدٌ على شباكها ، يغني بصوته الساحر ، تفهم ما يقوله ، وبدأت بجولتها الصباحية ..
إذا تأخرت في النوم فلن تغني لك الحساسين .
وصلت مكان العمل ، يا إلهي ماذا حدث ؟ أدهشها الموقف .
_" لقد داهم العدو المكان ودمرو كل شيء " ، أخبرها أحدهم .
كانت الغصة تذبح قلبها العطوف الذي تأكل منه العصافير كلما جاعت ، هل كان السمك يقاوم ؟ أم كانت الخضراوات تحمل بندقية ؟
سرقها من شرودها صوت رقيق وصغير ..
- يا خالة ، يا خالة ..
- أجل يا عزيزي
- لقد رأيتهم يقتحمون المكان ، وصوت قائدهم يهز الأرجاء ويأمرهم أن يدمرو كل شيء ، لقد أحرقوه بلا ضمير .
- هذا محتل ، يدرك ما يفعل ، ويعجبه الخراب .
نظر اليها بابتسامة صغيرة ساحرة وقال : بالمناسبة اسمي وطن .
- وأنا جهاد .
جاء صوته من بعيد ، هذا الغريب القريب الجميل يأتي مجدداً ، اقترب منهما وقال : هيّا لنرمم المكان من جديد ، ونعيد له هيئته .
مر اسبوعاً واحداً وكان المطعم جاهزاً ، بل كان أجمل هذه المرة ، وباشروا العمل فيه ثلاثتهم ، لقد أحبت الطفل كثيراً ولا تمل من الحديث معه حتى العودة للمنزل .
مرت الأيام قبل الكارثة ، هدوء ما قبل موجة الحزن ، لقد هاجموا المكان مرة أخرى بحثاً عن شيء ، عن شخص ، عن قلب ..
أوقفهم الطفل وطن بوجه غاضب مانعاً إياهم من الدخول ، وبصوت عارم يصرخ بهم : إلى أين يا وحوش؟
- هل عُيّنتَ مسؤولاً هُنا ؟
- سأتولى الأمر عمّا قريب ، أخبرني أيها القبيح ، ماذا تريد؟
- جهاد ، أين جهاد ؟
- ومن هذا ؟
- أتسخرُ مني يا قزم ؟ إن لم تُخبرني فستكون النهاية .
لم يصدق الصغير أن هناك نهاية لكل شيء ، لم يتعلم هذا بعد ، لم يعطه القبيح فرصة لأن يزيد محصول معلوماته ، أشاح النظر عنهم بعفوية ، عائداً لللعب ، حتى اخترقت جسده رصاصة غاضبة ..
بدأت الصرخات حوله من كل حدب ، سقط مغشياً عليه ، وشعاع نورٍ يخترق عينيه ، لا يرى سوى وجهها الباكي .
من هنا يستمر الموت يوم بعد يوم ، من هنا تبدأ حكاية الكفاح اللامنتهي ، من هنا قُتلنا ، ومن هنا سنعود يوماً .