كاتب(ة) : محمد المنشاوي
يوم في صحبة آساهي اليابانية
تعرفت عن قرب على حال الصحافة في اليابان خلال زيارة خاصة لها حيث أمضيت ساعات طويلة على مدار عدة أيام داخل جدران صحيفة آساهي. وتنوعت أنشطتي داخل الصحيفة من إلقاء محاضرة أمام صحفي ومحرري قسم الشئون الدولية، إلى التعرف على طريقة سير العمل الداخلية، إلى مقابلة كبار المسئولين فيها، وبين قضاء أوقات طويلة مع صحفيين منها لتبادل الآراء خارج الصحيفة أثناء تناول طعام أو شراب.
كذلك قمت بالتعرف عن حال الصحافة والإعلام الياباني من خلال زيارة لنادي الصحافة القومي الياباني حيث تمت دعوتي لإلقاء محاضرة عن تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط، ومقابلة المسئولين فيه. وخلاصة الزيارة هي أن الصحف اليابانية الرئيسية بخير وعافية. والصحف الكبيرة في معظمها مبادرات ومشروعات قديمة راسخة ومربحة أيضا، خاصة مع انعدام الأمية وسط الشعب الياباني البالغ تعداده 128 مليون نسمة. وجدير بي أن أذكر هنا أن اليابانيين هم أكثر شعوب العالم قراءة للصحف المطبوعة التي يبلغ عدد نسخها المباعة يوميا 58 مليون نسخة، ومن هذه النسخ ما يقرب من 80% للاشتراكات المنزلية. ويقرأ 98% من أفراد الشعب الياباني الأخبار يوميا سواء كانت صحف أو مواقع أخباريه.
ألقيت محاضرة أمام الصحفيين العاملين بالقسم الخارجي في آساهي التي تعد صحيفة يسارية بالمعايير اليابانية، ولا تجمعها علاقات طيبة بالحكومة اليابانية الحالية. وتدعم آساهي الموقف السياسي العسكري السلبي والمحايد لليابان والذي فُرض عليها بعد الهزيمة العسكرية في الحرب العالمية الثانية. وآساهي هي ثاني أهم الصحف اليابانية الخمس الكبرى، من حيث التأثير والتوزيع بعد صحيفة يوميوري. ووزعت آساهي عام 2016 ما يقرب من 7.6 مليون نسخة من طبعة الصباح، إضافة لمليوني نسخة للطبعة المسائية. وللصحيفة 300 مكتب موزعين في جميع أركان اليابان، وهذا غير المقر الرئيسي بطوكيو الذي يتكون من بناية كبيرة تستوعب عدة آلاف من الصحفيين والعاملين بالمؤسسة. ويوجد على سطح البناية برجا مميزا سألت عنه وعرفت أنه مكان الطائرات الهيلوكوبتر الصغيرة التي يستخدمها الصحفيون للوصول لمواقع التغطيات الطارئة أثناء ساعات الذروة المرورية إذا ما أستدعى الأمر.
وللصحيفة أيضا 30 مكتبا خارج اليابان من أكبرها تلك الموجودة في بكين وسول وواشنطن ونيويورك. ولآساهي انتشار مميز لتغطية منطقة الشرق الأوسط بمكاتب في القاهرة والقدس وبيروت وطهران. ووسط الساحة الصحفية اليابانية تتميز آساهي بتفوقها الكبير في الصحافة الاستقصائية. كما تحظى تغطية شئون دول الجوار الجغرافي (الصين وكوريا وبقية دول شرق آسيا) بأهمية خاصة من اهتمامات الصحيفة. وليس من السهولة الانضمام لفريق أخبار الشئون الدولية في آساهي، فعلى الصحفي المبتدئ أن يبدأ العمل في أحد المكاتب الإقليمية داخل اليابان ليغطي قضايا شديدة المحلية مثل الجرائم أو مسابقات المدارس أو إدارة مرافق محلية، وبعد أن يثبت الصحفي جدارته، يتم تصعيده للعمل في القسم الخارجي، ولا يستثنى من ذلك حتى هؤلاء ممن يعرفون لغات أجنبية أو ممن درسوا بالخارج.
بين طرقات الصحيفة لن يفوتك صور كبيرة متكررة في عدة أماكن لخطبة هامة ألقتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال زيارتها الأخيرة لطوكيو، والتي أختارات أن تلقيها في صحيفة آساهي تقديرا منها لها ولأهميتها، وتفتخر آساهي بهذا التقدير. طريقة عمل الصحيفة مختلف عما نعهده في الشرق الأوسط، إذ يفرض وجود نسخة رئيسية صباحية (منها ثلاث أو أربع طبعات) إضافة لطبعة مسائية، تواجد مئات الصحفيين على مدار الساعة حتى في الفترة من منتصف اليل وحتى السادسة صباحا.
تحدثت مع صحفيي آساهي عن موضوعين، أولهما الصورة الشاملة للأوضاع السياسية الجديدة في الشرق الأوسط منذ 2010 وحتى الأن، وثانيهما تعلق بالسياسة الأميركية. المعرفة اليابانية بالشرق الأوسط محدودة، وركزت تاريخيا على الجانب التجاري المتمثل في استيراد مواد خام (بترول) وتصدير التكنولوجيا اليابانية سواء في صورة أجهزة إلكترونية أو سيارات أو ماكينات صناعية أو زراعية. إلا أن الاهتمام الياباني بشئون الشرق الأوسط تضاعف خاصة مع ذبح تنظيم داعش لرهينتين يابانيتين قبل عدة أعوام.
ومن أهم الملاحظات الواضحة بين صحفيين القسم الخارجي هو ضآلة عدد الصحفيات مقارنة بزملائهم الذكور. وعلمت أن عدد الصحفيات اليابانيات في المكاتب الخارجية ضئيل أيضا، واشتكت أحد الباحثات اليابانيات من سيطرة الرجال على المجتمع والصحافة والسياسة بصورة يندر وجودها في أي من المجتمعات المتقدمة صناعيا وتكنولوجيا في أوربا أو اميركا الشمالية، وذكرت أن أوضاع النساء أسوء من نظرائهم في الشرق الأوسط!
لقاء امتد لساعة مع المدير التنفيذي لحيفة آساهي السيد يوشي نيشمورا، والذي يشغل أيضا المدير العام للنسخة اليابانية من هافينجتون بوست، أحد أهم المواقع الإخبارية في العالم، وتحدث نيشمورا عن الأوضاع الإعلامية في اليابان والعالم وتغير اهتمامات القراء من الشباب وابتعادهم التدريجي عن الصحف الورقة، وبالطبع تحدث عن انخفاض مبيعات الصحف اليابانية سنويا رغم أنها مازالت الأكثر قراءة حول العالم. ومعظم قارئ الصحف في اليابان، وهي النسبة الأعلى بين كل دول العالم، تتركز في الشريحة العمرية من كبار السن ممن تخطو سن الـ 40 عاما، وهي نسبة تبلغ 65% من الشعب الياباني. وتنخفض نسبة قارئ الصحف المطبوعة بين صغار السن ممن يتجهون للقراءة الإلكترونية.
تاريخ آساهي جزء لا يتجزأ من تاريخ اليابان الحديث، ومنذ نشأتها عام 1879، غطت آساهي أحداثا تاريخية كبرى كان أهمها الحرب العالمية الثانية. ومنعت الحكومة الصحيفة من الصدور لفترة قصيرة في بداية عام 1943 بعد نشر مقالات تنتقد الموقف الياباني من الحرب، وبعد ذلك أصيب مبنى الصحيفة أثناء الغارات الاميركية على طوكيو وقتل صحفيا منها يوم 27 يناير 1945. وبعد انتهاء الحرب استقال رئيس التحرير وعدد من كبار الصحفيين بعد اعترافهم بالمسئولية في التقصير الصحفي وعدم طرح أسئلة هامة على الحكومة أثناء سنوات الحرب. وبعد ذلك تبنت الصحيفة خطا تحريرا ألتزمت به حتى اليوم ويعرف بـ "الوقوف مع الشعب"، وهو ما تسبب لها عداءات مع الحكومات اليمينية مثل تلك التي تحكم اليابان اليوم.