كاتب(ة) : حسن أوريد
التطرف الغربي
في اجتماع انعقد بباريس حول ما يسمى باستئصال التطرف (dé-radicalisation)، في نوفمبر 2016، على مستوى مختصين في قضايا الإرهاب، راحت مسؤولة بوزارة الداخلية الفرنسية تحصي مزايا إنشاء مراكز رصد العناصر ذات النزعات الإرهابية، كي يودَعوا فيها من أجل إعادة "إدماجهم".
كان لهذه الشخصية الرسمية سجل حافل من المعرفة بقضايا التطرف والإرهاب، واشتغلت قنصلا لبلدها في أنقرة، وتعرف القضايا المتعلقة بالاستقطاب والتعبئة والإيواء للعناصر التي تعتزم الالتحاق بداعش. عُهد إلى الخبير في علم النفس التونسي فتحي بنسلامة بالإشراف على تلك المراكز في إطار برنامج استئصال التطرف.
كان السؤال المحير، هو ما هو المعيار الذي تعتمده السلطات الفرنسية لإيداع إرهابي محتمل أو مفترض في تلك المراكز، لأن "الاحتفاظ" أو على الأصح الاعتقال، يتم ليس بناء على فعل تحقق، ولكن على فعل ممكن التحقق أو عدمه.
ردت المسؤولة أنها تفرض على الأسر أو على الشخص نفسه تحايلا قانونيا، بإجباره على تقديم طلب من أجل إيداعه في تلك المراكز. لم يكن هناك من سند قانوني لما كان يبدو اعتقالا مُقنّعا، بناء على الظن، أو سوء الظن. أمام دهشة الخبراء لهذا الإجراء غير القانوني، عقّبت المسؤولة أنه يُستحسن أن تتم مؤاخذة المسؤولين على ما يصنعون عوض أن يؤاخذوا عما لا يصنعون. انبرت لبنانية حاضرة في اللقاء لترد: "سيدتي، إنني بدءا مسيحية، ولا أنطلق من فهم معين للإسلام ولكن ما تقدمينه هو كواتانامو جديد".
لا حاجة للوقوف على فشل تلك المراكز، وعلى عودة تلك المسؤولة (لم أرد أن أسفر عن اسمها لأن اللقاء كان مغلقا)، في حوار لها بجريدة لومند، تعترف فيه بانعدام السند القانوني لتلك المراكز، وعدم دقة معايير الرصد، ولكن الذي يهمنا هو التطرف الذي قد يصدر من مرجعيات غربية، سواء على المستوى الرسمي أو من لدن الجسم السياسي، أو الأكاديمي أو الإعلامي، أو سلوكات مجتمعية.
الإرهاب هو التحدي الأكبر الذي يواجه العالم حاليا، وجزء كبير من أسبابه هو ما يسميه الخبراء بمعارك المخيال، والعنف إحدى أدوات التعبير عن تلك المعارك. لكن ألا يسهم تطرف الخطاب، من أي جهة، في تأجيج الصراع وإشاعة الكراهية ومن ثمة اللجوء إلى العنف؟ لندعْ كل الأدبيات المعروفة عن التطرف الإسلامي، والتنظيمات التي تتفرع عنه، ولْنقفْ عند التطرف الذي تغذيه الاتجاهات الغربية، إما من مرجعيات ثقافية أو يمينية أو علمانيات متطرفة.
موجة العداء للإسلام أو الإسلاموفوبيا لم تعد محصورة في تحرشات بين الفئات الفقيرة في الأحياء الهامشية، بل أضحت اتجاها عاما، يتلفع بدثار العلم، من خلال الدفع باستنتاجات تزكي منطلقات خاطئة، بالاعتماد على تقنيات البحث من استطلاعات الرأي والإحصائيات، أو بتعبير الباحث السوسيولوجي، فانسن فيسجر (Vincent Geiser) فالعداء للإسلام أصبح أكثر "علميا".
ولا مراء أن هناك علاقة وثيقة أو ترابطا ما بين العداء للإسلام أو الإسلاموفوبيا والإرهاب، فالمواقف المسبقة من الإسلام ومن المسلمين، ومواجهتهم بالعداء هو ما يغذي التطرف من مرجعية إسلاموية، وهو الأمر الذي أقر به مسؤولون فرنسيون أنفسهم. عقب أحداث شارلي أيبدو، انبرى الوزير الأول الفرنسي السابق مانويل فالس ينتقد وضع الأبارتيد الذي تعيشه بعض الجماعات في خاصرة المدن الكبرى من الضواحي أو الأحياء الشعبية. وأقرّ الرئيس الفرنسي ما كرون مؤخرا بأن الدولة، أو الجمهورية، مُقصرة في بعض مهامها، مما يدفع البعض إلى استغلال الظروف الصعبة التي تعيشها الجماعات أو بعض أفرادها.
ورغم الوعي الذي أخذ ينفذ لدى السياسيين، من أجل إعادة النظر في الهجرة والإدماج والسياسات الاجتماعية، فإن التطرف من مرجعية غربية يظل مهيمنا في الإعلام والأوساط الأكاديمية ولدى صانعي الرأي العام. وقد يستند لتسويغ رؤاه من استخدام خبراء ومختصين من "المسلمين"، ممن قد يزايدون في الأمر، بناء على ما يسمى بغلو المُتحول (le zèle du néophyte)، أو ما كان يعرف في الأدبيات الاستعمارية بـ"عربي الخدمة" (l'Arabe de service).
من الكتب التي صدرت بأخِرة، قبل شهور معدودات ولقيت رواجا كبيرا واحتفاء من لدن وسائل الإعلام، كتاب "عدم الخضوع" (L'insoumission) لمحمد سيفاوي، وهو فرنسي من أصل جزائري، اشتغل صحافيا بالجزائر أثناء ما يسمى بالعشرية السوداء، وارتحل خلالها لفرنسا وحصل على الجنسية الفرنسية. يَصْدر سيفاوي من موقف مناوئ للحركات الإسلامية بكل أشكالها، ولا يميز بينها، وهي بالنسبة إليه المحضن للإرهاب.
التصدي للإرهاب يبدأ حسب الخبير من تجفيف منابعه الإيديولوجية، وإلا ستكون الحرب على الإرهاب كمن يرقم على الماء، مما يستلزم رصد الخطاب، وتعقب أصحابه، والتضييق على الجمعيات، ومنع أماكن العبادة، مع سبحة من "النصائح" التي يقدمها، لـ"استئصال الإرهاب". لا يقول الخبير شيئا عن الظروف الاجتماعية التي تعيشها المجموعات الإسلامية، في أحياء هامشية، ولا عن العنف الرمزي الذي تتعرض له، والميز المستتر سواء في الشغل والسكن، ولا الأحكام المسبقة الناجمة عن الاسم أو اللون.
طبعا الناس أحرار أن تكون لهم الرؤى التي يريدون، ويعبروا عنها كيفما يشاؤون، إلا أن للخطاب مضاعفات؛ خطاب التطرف الغربي يغذي خطاب التطرف من مرجعية إسلامية، يصبح حليفه الموضوعي، يتغذى منه ويغدو السند الداعم له، ولذلك يتحتم كسر هذه الحلقة المغلقة التي توظفها بعض الفئات الداعية للانكماش الهوياتي. معركة المخيال تبدأ بالحوار لا من منولوغات ثنائية.
ببروكسيل حضرت لقاء حول جذور الإرهاب، وانبرى كثير من الخبراء البلجيكيين يصورون حي مولنبيك، باعتباره بؤرة للإرهاب ومكانا ينعدم فيه القانون، وتسود فيه شِرْعة الغاب. عقب اللقاء قر عزمي أن أزور الحي وألتقي بعمدة المقاطعة. وجدت صورة مغايرة تماما لما تمت إشاعته، تكلم العمدة خطابا غير خطاب "الخبراء"، نسبة البطالة تعادل 47 في المائة من الشباب، نوعية التعليم متدنية ولا تستجيب لمتطلبات الشغل لمدينة كوسموبولتية، أماكن العبادة، أو المساجد تحت الرقابة والسيطرة، ولم يصدر بها قط خطاب يدعو للعداء والكراهية والعنف.
ثم دعاني بعدها للتجول في الحي والاحتكاك بالمواطنين. وجدت حيا هادئا، ومواطنين مسالمين كان لسان حالهم يقول: نحن ضحايا أوضاع اجتماعية واقتصادية، وضحايا صورة نمطية. استوقفوني يلتمسون مني أن أكتب عنهم من أجل إنصافهم. شهورا بعد ذلك صدر كتاب سلبي عن حي مولنبيك، من دار نشر باريزية، يزكي تلك الصورة النمطية التي ترسخت في الأذهان، وجذرتها الأفكار المسبقة. ما العمل حين يصر أصحاب الرأي على أحكامهم المسبقة رغم تبدي خطئهم وسطوع الحقيقة؟ أليست الحقيقة هي أولى ضحايا الحروب، كما يقول الخبير الحربي الألماني كلوستفيز؟