كاتب(ة) : رزان سليمان
هذه هي قصتي مع الكتب والقراءة
حين بدأ عندي شغف المطالعة كنت لا أبلغ من العمر إلا القليل، ربما الكثير من القليل الذي لا يؤهلني أصلاً لخوض هكذا مضمار أنهل منه ولا أرتوي، وأُبحر في أعماقه وأقبل بالغرق بداخله. كانت تجربتي مع القراءة تمر بمراحل لم أحسب لها حساباً ولم أفكر بطريقة سيرها ولم ألقِ بالاً لتسارعها أو تباطئها، فالمحصول النهائي هو ما كان يهم والأمر ليس بالعدد والترتيب والكثرة، إنما هو بالحكمة الناتجة من تلك الأحرف. بالإضافة إلى الخبرة المخلوقة في الدماغ جراء ذاك الجهد والعلم المحصول عليه من خلف الكتب أو التي ستصبح فيما بعد مجلدات لكثرة القراءة ووفرة المحصول وتعب العيون وسهر الجفون ذات حُب، وأي حُبٍ كان! إنه حُب الكتب.
إنه الانهمار على القراءة حتى لا تعي ما الوقت وما التاريخ، ما الأزمان التي تعيشها حقيقةً وما الفترات التي تُسافر بها مجازاً. إنه الحُب المجبول على عظيم التقبل للنفس وشغفها الأعظم بأن ما من راوٍ لها إلا الأحرف وما من معين لها في ضعفها إلا الكتب. كنت أضع ومع بداية كل عام، خطة سنوية مفادها أن أُنهي قراءة خمسة كتبٍ على الاقل بتمعن خلال السنة الجارية، والحق يُقال أنه لكثرة امتحاناتي وانشغالاتي مع دور تحفيظ آيات الذكر الحكيم وبين العائلة والأصدقاء والأعياد والأفراح، كنت لا أنهي إلا كتابين وأحياناً أقل، لكن كما قلت سابقاً، ليس المهم العدد والترتيب، إنما المحصول المستوطن للعقل والقلب هو المهم.
وعلى ذلك كان وما زال لا مانع لدي من قراءة كتابٍ علمي واحد مقابل خمسة روايات قلبية أو اجتماعية أو نفسية. المهم أنني اقرأ بحُب، أنني أقرأ لأستمتع، أنني أقرأ بلهفة وشوق للسفر خارج عالمي الحالي. اعتدت أن أرى نفسي بين السطور وأن أقلد بعض الأدوار في بعض الروايات إن كانت تتناسب مع طريقة عيشي والتزامي ببعض الأمور. كنت أرى نفسي إحدى أبطال الرواية وأعيش بها وتعيش بي، أعيش معها وأحزن لحزنها وأفقد لفقدها وأتحمس لحماسها. كنت وما زلت أغذي روحي بالكتب عن طريق تخيل إحدى أبطال الرواية أنا وأن المصير مصيري والنهاية منوطةٌ بي.
أذكر أن أول كتابٍ قرأته على الإطلاق بعيداً عن كتب المدارس كان الرمز المفقود لدان براون، وكانت إحدى الصديقات قد أوصتني بقراءته كثيراً حتى ظننت أن حياتي مجبولة عليه. قرأته وامتد الأمر معي أياماً وشهوراً، كيف لا وهي أول رواية اقرأها وعدد صفحاتها ليس بالهين السهل. وعندما أنهيتها بدأت أُبحرُ أكثر فأكثر في عوالم الكتب وأنهل من حروفها وأعيش لها وبها. مرت السنون وكبرت، وتعلمت كيف أدير وقتي بين كل الانشغالات المذكورة أعلاه وبين ممارسة هوايتي الأولى المكتشفة والتي لا أريد لها أن تموت دون أن تأخذ حقها وتتغذى من هذه الحياة وأتغذى بها.
كبرت وتعلمت أن ما من شيء مبهج للنفس ومريحٍ للعقل أكثر من ممارسة عمل أحبه، عملٍ أجد فيه نفسي وأسكن إليه ويسكن بي. ثم مع الأفكار المتراكمة تباعاً، لمع في فكري أن أكتب أنا الكتاب، أن أعرّف عن نفسي من خلاله، أن يكون الكتاب أنا وأنا الكتاب، أن أدير أحداثه وتسلسله بنفسي مستعينة بخبرتي الضئيلة من قراءاتي السابقة لكل كتاب سابق. وأطلقت خفايا الروح فكان كتابي الأول وطفلي الأول وملجأي الأول وصديقي الأول وسبيلي الأول في ذاك الطريق. أطلقته بعد جهد كتابةٍ دام لعام، توقفت فيه عن الكتابة مرات عديدة وتزعزت ثقتي بقدرتي على الوصول، فترت روحي أحياناً واشتعلت حُباً أحياناً أكثر، لكنني لم أفقد إيماني أبداً بأنه سيكون يوماً ما من فترة ما من وقت ما.
وبعد (خفايا الروح) أصبحت منكبة على القراءة أكثر، واستعنت بخالقي ليكرمني بقراءة القدر الأكبر من الكتب، لكنني وضعت خطة أيضاً أن أقرأ وأكتب مراجعاتي الخاصة عن كل كتاب، مراجعة ليست كالتغير، لا تتحدث عن تاريخ الكتاب ولا عن مكان صدوره ولا عن سيرة الكاتب ولا تُلخص الأحداث المحورية للكتاب. بل كانت مراجعاتي جمعاء مجبولةٌ على الشعور، على الإحساس الذي رادوني أثناء القراءة، على الحُب الذي احتفظت به لروحي، وعلى تبعثر الأحرف في عقلي بعد القراءة والتي شكلت بدورها تلك المراجعات. أصبحت ومع مرور الوقت أقرأ بكثرة وفي كل مكان وأي زمان.
كنت أنهض من نومي لأقرأ وأؤجل اَي عمل يستحمل التأجيل لأجل القراءة، كنت أؤمن أنني أفعل ما أُحب وما أريد من دون أي ضغوطات جانبية لا تسمن ولا تغني من حلم. كنت أصنع ذاكرتي بنفسي وأثريها بما أريد وأعشق. كانت أهدافي مع مرور الوقت أن حقاً أقرأ خمسة كتبٍ فأكثر خلال العام، لكنني اكتشفت بعد التدقيق أنني وصلت لقراءة خمسة كتب في شهر. كنت بذلك أسعد الخلق وأكثرهم فخراً بما فعلت، فكل مرحلة من مراحل قصتي مع الكتب ما زادتني إلا حباً وإقبالاً على ما أريد حتى وصلت إلى ما أنا عليه الآن، حيةً بالكتب أعيش بها ولها وأؤمن أنها النبض الذي لا يُخيب صاحبه والصديق الذي لا يترك صديقه والروح التي لا تؤذي من عرفها.