العلم والصوفية
د.على مصطفى مشرفة
قد يظهر لأول وهلة أنه لا يمكن ان تكون هناك صلة بين العلم والصوفية فالعلم يطلب المعرفة عن طريق الحواس ويستخدم التفكير الصحيح والصوفية تنكر حقيقة ما يصلنا عن طريق الحواس وتتطلب المعرفة في حالة نفيسة لا تتفق مع التفكير الصحيح. العلم لا يقتنع إلا بما تثبته التجارب والعالم رجل عملى لا يصدق إلا ما يراى أو ما يستنتجه المنطق مما يرى. والحقيقية في رأيه في هذا العالم المحسوس الذي يلمس ويسمع وينظر، أما الفيلسوف الصوفي فيدعي أن كل ما يلمس ويسمع وينظر إنما هي ظلال للحقيقة وإن وراء هذه الظلال توجد الحقيقة الأبدية التي لا تصل إلى الحس ولا تدركها العقول وهنا سأوضح الموقف بأن أذكر محاوره وهمية بين عالم وفيلسوف صوفي.
العالم: أنت تدعي أن كل الحقائق التي نصل إليها عن طريق الحواس إن هي إلا أوهام.
الفيلسوف:نعم او بعبارة أخرى اصح هي ظلال للحقيقة.
العالم: إذن فهذه المائدة وهذا المصباح وهذا الكرسى الذي أراه كلها أوهام؟
الفيلسوف: إن ما يصل إليك عن طريق الحواس من هذه المائدة وهذا المصباح وهذا الكرسي هي ظلال لحقائق هذه الأشياء. أما كنه هذه الاشياء فلا يمكن أن يصل إليك عن طريق الحواس بل إن تفرقتك بين أجزاء الكون وتسمية كل جزء باسم خاص هو من عملك انت. أما الحقيقة فوحدة متماسكة لا تتجزأ.
العالم: وإذن فكيف تصل إلى معرفة هذه الحقيقة.
الفيلسوف: عن الطريق الروحي حيث تدرك وحدة الكون وتتجلى لك الحقيقة.
العالم: ولكني أفهم أن معنى هذا أنك تضع نفسك في حالة نفسية خاصة لا يمكنني أن أصفها بأنها حالة طبيعية بل هي أشبه بحالة الاغماء فلا أستطيع أن أعتمد على خبرتك النفسية عندئذ.
الفيلسوف: إن ما تسمية أنت حالة إغماء هو ما أسميه أنا حالة ((الإشراق)) او((التجلي)) وعندها تصفو الروح من مكدرات الحواس وتتصل النفس بالحق.
العالم: اعذرنى إذا أنا فضلت البقاء في حالة الوعي التام واعتمدت على نتائج المشاهدة والتفكير.
الفيلسوف: لك ان تفعل ذلك ولكنك لن تصل بذلك إلى حقيقة شيء بل ستعيش في عالم من الرموز والظلال وهنا يفترق الرجلان كل يظن أخاه واهماً.
هذه المحاورة الوهمية ربما حدثت بين عالم وفيلسوف صوفى في القرن الماضي. إلا أن العلم والفلسفة قد تطور كل منهما في أوائل هذا القرن بحيث اقتربت وجهتا النظر وأصبح من الميسور أن يتفاهما. وربما استغرب البعض أن يسمع أن أول خطوة في سبيل هذا التفاهم خطاها السير إيزاك نيوتن العالم الفلكي الطبيعي نحو قرنين ونص قرن لما وضع قانون الجاذبية العامة. فكلكلم قد سمع الحكاية التي تحكي عن أن نيوتن رأي تفاحة تسقط من شجرة فأوحى إليه هذا الحادث أن الأرض تجذب التفاحة إليها وتدرج من ذلك إلى أن الأرض تجذب القمر والشمس تجذب الأرض الخ. لنتأمل في رأي نيوتن هذا. أي جزء منه واقع تحت المشاهدة وأي خارج عنها؟ إن التفاحة والأرض و حركة التفاحة كل هذه أشياء تمكن مشاهدتها. ولكن ما هي هذه القوة التي تجذب الأرض بها التفاحة؟ نحن نعلم أنه لا يوجد ارتباط مادي بين الأرض والتفاحة فكيف إذن يمكن أن تشد الأرض التفاحة؟ يرى القارئ أن نيوتن أضطر الى افتراض وجود عامل خفي لا تتسنى مشاهدته لكي يفسر حركة التفاحة؟ هذا العامل الخفي -أو العفريت الاصطناعي- هو ماسماه الجاذبية الأرضية. حقيقة أن لفظ الجاذبية عليه شيء من الطلاء العلمي ولكن يجب أن لا نغتر بالأسماء، فالجاذبيةكانت ولا تزال نوعا من السحر العلمي والقول بوجودها هوالقول بوجود سر من الأسرار الخفية في نظام الكون أو طلسم من الطلاسم التي لا تصل إلى كننها العقول. ومع هذا فقد ظل العلم أكثر من مائتى عام بعد نيوتن بعيداُ عن الفلسفة الصوفية فالجاذبية وقوانيها إن هي إلا جزء يسير من العلوم الطبيعية-وإن كان جزءاً أساسياً فيها- وهناك المادة التي نشاهدها ونجري تجاربنا عليها كما أن هناك الحرارة والكهربائية والضوء كلها أشياء محسوسة تكون أساساً مقنعاً مشاهداً للعلم.
والخطوة الثانية قربت العلم من الفلسفة الصوفية خطاها علماء الطبيعة فى أواخر القرن الماضي حين افترضوا وجود الأثير. فالأثير الذى افترضوه هو شئ لا تمكن مشاهدته ومع ذلك فقد كان افتراضه تبسيط للحقائق الطبيعية ولم لشعثها بحيث يستطيع العقل البشري أن يفهمها ويؤلف بين أجزائها.
وكما أن قوى الجاذبية موجودة في جميع أنحاء الفضاء فكذلك الأثير ماليء له فكأنما العالم بحر هائل من الأثير. المادة إن هي إلا أجزاء صغيرة فيه تختلف خواصها عن خواص ما حولها من الأثير وكان العلماء في أوائل هذا القرن يتكلمون عن الماده كما لو كانت مجرد ظاهرة أي طرف خاص من ظروف هذا الأثير. أليس هذا معناه أن الحقيقة الأصلية وهي الأثير شيء لا يقع تحت حِسنا وأن ما يقع تحت حِسنا وهي المادة إن هي إلا ظرف خاص من ظروف الحقيقة أو هي ظل من الظلال الزائلة في عالم الحقيقة؟
ثم جاء إينشتين بنظريتة المعروفة بالنسبية وجاء دي برولي وشرويدنجر بأن المادة إن هى إلا أمواج في لا شيء لا سبيل إلى وصفها إلا باستعمال الرموز الرياضية المعقدة فتلاشت الأسس المادية التي كان العلم يبني عليها صرحه واستعضنا عنها بمعادلات رياضية هى فى ماديتها أو هي من نسيج العنكبوت. ولكي أدل القارئ على موقف العلم إزاء الفلسفة الصوفية سأنقل له ترجمة من قول الأستاذ السير أرثر أدبجتن من أكبر العلماء الفلكيين والطبيعين في هذا العصر من كتابه ((كنه العالم الطبيعى)) حيث يقول:
((كلنا يعلم أن هناك أنحاء من النفس البشرية غير مقيدة بعالم الطبيعة. ففي المعنى الخفى للخليقة التي تحيط بنا وفى التعبير الفنى وفى النزوع نحو الله -فى كل هذه تطمح النفس إلى العلى وتجد تحقيقاً لشئ مودع فى طبيعتها. وتبرير هذا الطموح داخلى فينا فهو محاولة من جانب إدراكنا أو هو نور داخلى ناشئ عن قوة أعظم من قوتنا. والعلم يكاد لا يقدم على الشك فى تبرير هذا الطموح إذ أن الرغبة فى العلم هى نفسها ناشئة عن وازع داخلى لا تقوى على ردعه. فسواء فى الاستزادة الفكرية من العلم أو فى سائر النزعات الروحية الخفية فى كلتا هاتين أمامنا نور يجذبنا إليه ونحن نشعر بالرغبة فى السعى نحو هذا النور. ألا يكفى أن نترك المسألة عند هذا الحد وهل من الضرورى أن نصر على استخدام كلمة الحقيقة كما لو كانت لازمه لتشجيعنا فى مجهودنا)).
هكذا يكتب العالم الطبيعى اليوم. ويرى القارئ أن المحمل العقلى الذى كان يقرن بالعلم حتى أوائل هذا القرن. فالعلم قد أدرك أن المعرفة البشرية متعددة النواحى وأن طريقة المشاهدة والتحليل المنطقى التى بنى عليها عمله ليست بالطريقة الوحيدة التى يمكن أن يسلكها المرء فى الوصول إلى المعرفة كما أن هذه الطريقة قد أدت بنا إلى نوع من التفكير الصوفى بحيث صارت الشقة بيننا وبين الفلاسفة والعلماء الروحيين غير بعيدة. ومن يدرى فلعل أبناء الجيل القادم يرون علماء الطبيعة وعلماء الدين والفلاسفة متصافحين متكاتفين على خدمة البشر فى النواحى الثلاث الطبيعية والروحية والتفكيرية.