المثقف العربي والسلطة أية علاقة؟
لطالما كانت العلاقة بين المثقف والسلطة الحاكمة واحدة من المعايير التي يلجأ إليها الناس في تقييم دور المثقف وفكره وسلوكه وأخلاقياته، وقد تباينت العلاقة بين المثقف والسلطة بين الوقوف في وجهها حينا والخضوع لها والانصياع لحكمها حينا آخر، فبعض المثقفين يظهر مندرجا أصلا في سياسات السلطة فيكون من صناعتها، وبعضهم الآخر يكون واضحا في معارضته للسلطة، ومنهم من يتخذ موقفا مناصرا علنا أو ضمنا للسلطات القائمة بعد سنوات طويلة من معارضته لها، فيما بعضهم الآخر يتراجع خطوة أو خطوات إلى الوراء أو يقف على الحياد منتظرا ما ستؤول إليه الأمور تبعا لرؤى أو تحليلات خاصة قد تكون مصيبة أو خاطئة، صادقة أو كاذبة، أو وفقا لمصالح ذاتية ظهرت إلى العلن بعد أن كانت مخفية.
وفي هذه الورقة البحثية، اخترت أن أتحدث عن المثقف والسلطة في الوطن العربي، وما تسفر عنه التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها في المجتمع بخصوص هذه العلاقة.
فما الدور الذي يؤديه المثقف العربي في تغيير المجتمع تاريخيا وسياسيا؟ وما علاقته بالسلطة الحاكمة؟
للإجابة عن هذين السؤالين وغيرهما قسمت ورقتي البحثية هاته إلى المباحث التالية:
المبحث الأول: تكوينات المجتمع وحدود الدولة
يجب البدء بالحديث عن المجتمع، باعتباره جزءا لا يتجزأ من الدولة، فما هي تكوينات المجتمع؟
المطلب الأول: تكوينات المجتمع
ينقسم المجتمع بصرف النظر عن نظام حكومته الرسمي إلى مجموعتين رئيسيتين
نخبة تسيطر على السلطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال خبرتها وامتلاكها للثروة والملكية والمركز الاجتماعي والمكر السياسي والاقتصادي، وجمهور من كل المواطنين الآخرين مشوش ومستبعد من التـأثير الفعال على السياسة العامة وتعتبر هذه الظروف حتمية لأن الجماهير من غير المحتمل أن تستطيع اكتساب القدرة لأن تكون مشاركة فعالة في السياسة ماعدا كأتباع لبعض الزعماء الكاريزميين وبالمقارنة بتفسير تعددية المجتمع المنظم في العديد من المجمعات المتنوعة، يصور الجمهور على أنه مزيج مشوه مشوش ومتقلب السلوك حيث يستجيب للمظاهرات الجماعية والإضرابات العامة.[1]
هذا الجمهور يعيش تحت إطار مركزي ممنهج يسمى الدولة، فما هي حدود هذا الإطار؟
المطلب الثاني: حدود الدولة
تتمتع الدولة عموما بمدى واسع من الوظائف المختلفة، تسخره لخدمة أغراض سياسية وإيجابية، على حد سواء، فسلطة القسر والإكراه التي تتيح للدولة حماية حقوق الملكية وتوفير الأمن والسلامة العامة هي السلطة ذاتها التي تخولها مصادرة الأملاك الخاصة والاعتداء على حقوق مواطنيها، كما أن احتكار شرعية السلطة التي تمارسها الدولة لا يتيح للأفراد تجنب ما أسماه هوبز حرب كل إنسان ضد كل إنسان آخر على الصعيد المحلي فحسب بل يشكل أيضا أساس النزاعات والحروب على الصعيد الدولي، إن مهمة علم السياسة الحديث كان ولا يزال تدجين سلطة الدولة وتنظيم ممارسة في ظل حكم القانون وتوجيه نشاطاتها نحو أهداف تعتبر شرعية بنظر الشعوب التي تحكمها وبهذا المفهوم تبقى على الإطلاق في أجزاء واسعة من العالم كالدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء قبل فترة الاستعمار الأوروبي مثلا.[2]
فكيف تؤثر السياسة في الوطن العربي؟
المبحث الثاني: تأثير السياسة في الوطن العربي والمشاركة السياسية
المطلب الأول: تأثير السياسة في الوطن العربي
لا خفاء أن السياسة علم واسع جدا يتفرع إلى فنون كثيرة ومباحث دقيقة شتى، وقلما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم، كما أنه قلما يوجد إنسان لا يحتك فيه، وقد جاء في كل الأمم المترقية علماء سياسيون تكلموا في فنون السياسة ومباحثها استطرادا في مدونات الأديان أو الحقوق أو التاريخ أو الأخلاق أو الأدب، ولا تعرف للأقدمين كتب مخصوصة في السياسة لغير مؤسسي الجمهوريات في الرومان واليونان، وإنما هناك في الوطن العربي مؤلفات سياسية أخلاقية ككليلة ودمنة ومحررات سياسية دينية كنهج البلاغة وكتاب الخراج، وأما في القرون المتوسطة فلا تؤثر أبحاث مفصلة في هذا الفن لغير علماء الإسلام؛ فهم ألفوا فيه ممزوجا بالأخلاق كالرازي والطوسي والغزالي والعلاتي وهي طريقة الفرس، وممزوجا بالأدب كالمعري والمتنبي وهي طريقة العرب، وممزوجا بالتاريخ كابن خلدون وابن بطوطة وهي طريقة المغاربة، أما المتأخرون من أهل أوروبا ثم أميركا فقد توسعوا في هذا العلم وألفوا فيه كثيرا وأشبعوه تفصيلا حتى إنهم أفردوا بعض مباحثه في التأليف بمجلدات ضخمة، وقد ميزوا مباحثه إلى سياسة عمومية، وسياسة خارجية، وسياسة إدارية، وسياسة اقتصادية، وسياسة حقوقية... إلخ، وقسموا كلا منها إلى أبواب شتى وأصول وفروع، وأما المتأخرون من الشرقيين، فقد وجد من الترك كثيرون ألفوا في أكثر مباحثه تآليف مستقلة وممزوجة مثل أحمد جودة باشا، وكمال بك، وسليمان باشا، وحسن فهمي باشا، والمؤلفون من العرب قليلون ومقلون، والذين يستحقون الذكر منهم فيما نعلم: رفاعة بك، وخير الدين باشا التونسي، وأحمد فارس، وسليم البستاني، والمبعوث المدني، ولكن يظهر الآن أن المحررين السياسيين من العرب قد كثروا، بدليل ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلات في مواضيع كثيرة.[3]
فهل تكون السياسة بتحرير المؤلفات وحدها، أم تكون بالمشاركة فيها عبر الانغماس في دواليبها، وما هو واقع السياسة في الوطن العربي؟
المطلب الثاني: المشاركة السياسية
لا يقوم الحكم الرشيد إلا بالمشاركة السياسية، فهي إحدى مبادئه الأساسية وهي من العلاقات الدالة على رشاده وفي الوقت ذاته مؤشر على مدى كفاءته، والمشاركة تعني أن يكون لكل فرد دور ورأي في صنع القرارات التي تؤثر في حياته سواء بصورة مباشرة، أو عبر مؤسسات أو منظمات وسطية يجيزها القانون في ظل نظام سياسي لديه هامش كبير من الحركة والمرونة والاستيعاب يتقبل كل أنواع المشاركة.
وبهذا المعنى يعتبر مفهوم المشاركة شديد الارتباط بالمجتمع الديمقراطي، فالمشاركة تمكن المجتمع من الاستخدام الأمثل لطاقات وقدرات أفراده وجماعاته المنظمة فهي تدعو إلى إعطاء دور أكبر إلى المجتمع المدني وتوجب تطبيق اللامركزية على صعيد الإدارة العامة أو الحكومية وتمكن المواطنين من المشاركة في بنية السلطة ومن التأثير على السياسات الاجتماعية وأخيرا تحرر المشاركات قدرات المرأة وتفسح المجال أمام تنمية النوع الاجتماعي من جهة، أما من جهة أخرى فترتبط المشاركة ارتباطا وثيقا بالتعددية السياسية على أساس أنه لا يمكن وجود تعددية من دون أن تدعمها مشاركة سياسية حقيقية.
وللتعددية السياسية معالم من أهمها وجود أحزاب سياسية بمختلف اتجاهاتها وأفكارها السياسية، والتي تمثل جميع شرائح المجتمع والقوى السياسية المكونة له بالإضافة إلى وجود جماعات ومؤسسات للمجتمع المدني والتي تمثل جميعها رافدا من روافد التعددية السياسية الفعلية والتي من خلالها يتم توفير الآليات السياسية والديمقراطية الفاعلة التي تعبر عن إرادة الشعوب وصولا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية السياسية الحقيقية.[4]
المبحث الثالث: الواقع السياسي في الوطن العربي وعلاقة المثقف بالسلطة السياسية فيه
المطلب الأول: الواقع السياسي في الوطن العربي
ليست الدولة الحديثة في البلاد العربية الإسلامية سوى نسخة باهتة للدولة السلطانية، وهذا نتيجة عمليتين مزدوجتين، عملية التطور الطبيعي الذي أورتها كثيرا من الأفكار والأنظمة وأنماط السلوك التقليدية وعملية إصلاح غيرت شيئا من التراتيب الإدارية العليا، فمنذ قرون والدولة في البلاد العربية الإسلامية سلطانية تخدم السلطان (ظل الله على الأرض)، فالجيش هو يد السلطان يحارب في الداخل أكثر مما يواجه الخارج، والضرائب هي غرامة تقدر بما يحتاج إليه الأمير بما تستطيع أن تحمله الرعية فتؤخذ غصبا من التاجر والفلاح والصانع وحتى من الموظف إذا غضب عليه ولي نعمته، أما الإدارة فهي في الغالب أمانة يعني أنها تطلق على أفراد يؤتمنون على مال السلطان من نقود وعروض وماشية وعقار ما عدا هذا فهو تحت تصرف الجماعات (القبيلة العلماء...).
ولا يوجد ارتباط بين دولة السلطان وبين المصالح الاجتماعية، فليست التوظيفات تعويضات على خدمات إنما هي رمز الانقياد والطاعة، منطق السياسة شيء ومنطق المصلحة الاقتصادية والاجتماعية شيء آخر، وهنا تعني الدولة بالضبط ما يدل عليه القاموس القهر والتصرف الحر في بيت المال.[5]
فمن يقف في وجه السلطة القسرية، ومن يردع السلطان عن التصرف في مال أفراد المجتمع؟
للمثقف دور هام يؤديه في الوقوف في وجه الظلم والحيف والتسلط، لهذا وجب الحديث عن نشأة مفهوم المثقف، وتحديد دوره في المجتمع وعلاقته بالسلطة السياسية في الوطن العربي.
نشأة مفهوم المثقف ودوره في مواجهة السلطة
نشأ مفهوم المثقف-بحدة- بفرنسا مع انفجار قضية دريفوس وطرحت مسألة المثقف أيضا في الثقافة الروسية والألمانية، ولم يكن مضمون هذا المفهوم غائبا فيما قبل، فقضية سقراط وقضية فولتير، تقدمان نموذجا واضحا عن مفهوم المفكر أو الفيلسوف أو رجل الآداب الذي لا تشغله همومه المعرفية وتأملاته الفلسفية عن الاهتمام بشؤون المدينة والنزول إلى الساحة العمومية صادعا باسم الحق والعدل والخير ومدافعا عن القيم الإنسانية العامة المجردة التي يلخصها شيشرون في حب النوع البشري، كما لخص أفلاطون قضية سقراط بقوله: (ظننت أن النظام الجديد سوف يضع حكم العدل مكان حكم الجور، وكرست له كل انتباهي لأرى ما سيفعله، فرأيت هؤلاء السادة في وقت قصير جدا وقد جعلوا الديمقراطية التي حطموها تبدوا وكأنها العهد الذهبي، لقد ذهبوا إلى حد أمروا فيه سقراط أن يشترك في القبض على مواطن كانوا يريدون إزاحته عن طريقهم وكانوا يبغون من وراء ذلك إشراك سقراط، أراد هو أو لم يرد في أعمال النظام الجديد وقد رفض سقراط الخضوع لهذا واستعد لمواجهة الموت، مؤثرا هذا على أن يصبح أداة لجرائمهم).
هاتان القضيتان اعتبرتا في تاريخ الفكر الغربي نموذجا لسلوك المثقف في مواجهة طغيان السلطة أو سلطة الطغيان، بل اعتبرتا علامة للمثقف ولسلطته حين ينزل إلى الساحة العمومية مقرا لحق أو دافعا لشبهة، إلا أن ما حدث أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا كان أقوى سواء من حيث المشاركة المكثفة للمفكرين في الحدث أو من حيث حجم تأثير القضية، مما كان كافيا بأن يخلق حدثا ثقافيا جديدا في تاريخ الفكر الغربي إنه نشأة المثقف كما بلوره الفكر الحديث للمثقف كما سنرى شهادة ميلاد، إنه وليد قضية اجتماعية وسياسية شهيرة عرفت في تاريخ فرنسا الحديث باسم قضية دريفوس.[6]
المطلب الثاني: علاقة المثقف بالسلطة السياسية في الوطن العربي
في التاريخ العربي العديد من الأمثلة حول العلاقة المعقدة بين السلطة والنخبة المثقفة أو الفكرية أو الإبداعية، وموضوع العلاقة يتحدد في الوطن العربي في الزمن المعاصر، بداية النهضة العربية في القرن التاسع عشر وقد نتج بسبب مجموعة من الظروف والتطورات التي أثرت على العلاقة بين أهل العلم وأهل السلطة في الوطن العربي، وأهمية الموضوع تكمن في ارتباطه مباشرة بإشكالية العمران أو الانحطاط والجمود، وهي إشكالية لها مداخل عديدة تصب جميعها في قضايا ازدهار الأمة ومسبباته، وكذلك جمودها وانحطاطها وتعرضها للهيمنة الخارجية على مقدراتها بسبب جمودها الفكري والثقافي والعلمي، وهناك أنماط عديدة لعلاقة السلطة بالمثقف وهي أنماط تسوغها نوعية السلطة ونظام الحكم، وموقفها من الاستقرار الاجتماعي الذي تهدف إلى الحفاظ عليه من جهة ومبادرتها إلى تشجيع ودعم الإبداع والعلم والتقدم، مما قد يعرض الحكم إلى عدم الاستقرار من جهة أخرى، وهذا مدخل أساسي لإشكالية العلاقة بين السلطة والمثقف.[7]
فالعلاقة بين المثقف والسلطة السياسية تثير جدلا متواصلا، ويسود اعتقاد بأن المثقف لا بد أن يكون ضد السلطة السياسية بسبب موقفه النقدي أصلا، فالمثقف بحسب سارتر هو الضمير الذي لا يرضى ولا يقتنع بالأمر الواقع، والمثقف بتكوينه وإدراكه يفترض فيه صعوبة التكيف ولكن الحياة الواقعية تفرض عليه في كثير من الحالات، قدرا من التنازلات والحلول الوسطى، إلا أن بعض الدراسات تنفي التناقض الكامل بين المثقفين والسلطة السياسية؛ فالمثقف الذي يعمل ويتفاعل في إطار هذه السلطة، من الصعب عده خارج السلطة، وفي مواجهة دائمة معها، ومهما تكن نقاط التلاقي والتباعد بين المثقف والسياسي فإن كليهما بحاجة إلى الآخر وسواء كان المثقف في السلطة أو مستقلا عنها، فإنه يدخل في شبكة علاقتها على حد تعبير ميشيل فوكو الذي يرى أن المثقفين طرف في السلطة وممارستها وفي بنية خطابها، ومن ثم هم طرف في لعبة السلطة، فإذا كان المثقف يشارك في صياغة وعي المجتمع، فإنه بالضرورة، يتقاطع وبعمق مع السياسي.[8]
وبغض النظر عن تقاطع الآراء في حقيقة المثقف، إلا أنه يجب التأكيد على أن المثقف عموما:
- ينهض بدور محدد في الحياة العامة في مجتمعه ولا يمكن اختزال صورته، بحيث تصبح صورة مهني مجهول الهوية، أي مجرد فرد كفء ينتمي إلى طبقة ما ويمارس عمله وحسب.
- هو فرد يتمتع بموهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة ما أو تمثيل وجهة نظر ما أو موقف معين أو فلسفة ما أو رأي ما وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى المجتمع وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع؛ وهذا الدور لا حد له ولا يمكن للمثقف أداؤه إلا إذا أحس بأنه شخص عليه أن يقوم علنا بطرح أسئلة محرجة وأن يواجه ما يجري مجرى الصواب أو يتخذ شكل الجمود المذهبي، وأن يكون فردا يصعب على الحكومات أو الشركات أن تستقطبه، وأن يكون مبرر وجوده نفسه هو تمثيل الأشخاص والقضايا التي عادة ما يكون مصيرها النسيان أو التجاهل والإخفاء.
ويقوم المثقف بهذا العمل على أساس المبادئ العامة العالمية وهي أن جميع أفراد البشر من حقهم أن يتوقعوا معايير ومستويات سلوك لائقة مناسبة من حيث تحقيق الحرية والعدل من السلطات الدنيوية أو الأمم وأن أي انتهاك لهذه المستويات والمعايير السلوكية عن عمد أو دون قصد لا يمكن السكوت عليه بل لا بد من إشهاره ومحاربته.[9]
كما يجب التأكيد على أن المثقف العربي خصوصا:
- لقي في إطاره العام مجموعة تناقضات جينية اجتماعية قد ينجح بإرادة نفسه ضمن طقوسها أو على مساحتها أو أن يفقد القدرة على أن يكون مديرا لمختلف الأزمات التي تعيش في باطنه الخفي أو تلك التي تعترضه في أثناء الكتابة عندما يحاول تبني أي من المشاريع الإبداعية أو تلك التي تفرزها مكوناته الأيديولوجية سواء في كتاب يؤلفه لصالح الجماعة التي تقدمه لنا منتجا مخلصا لأفكارها أو لسياستها داخل مجتمعات الشعوب.
- وجوده باعتباره كاتبا في دائرة معادية لنهجه وتحت سلطة نظام معاد لأيديولوجيته؛ قد يمر بمراحل سيكولوجية مقلقة، مما يؤدي به تدريجيا نحو الاستنفار الضدي درجة درجة؛ صعودا إلى الطاقة القصوى التي تجعل منه خارج عالم الحريات الديمقراطية مخلوقا مفترسا يخترع أفضل الطرق التي تجعله قريبا من هدفه ومنجذبا بحماس قوي نحو الاستبداد، فلا استبداد يخلو من نظرية خلق الاستبداد المضاد؛ وبالتالي فالمثقف العربي الذي لطالما تغذت تربته بالأسمدة السوداء المستمدة قوتها من الحديد والنار سيجد خلاياه الجسمانية وقد امتلأت بتلك القوة الساحرة التي يولدها منتوج الحديد والنار لتصبح في نهاية المطاف طاقة مخترعة لنظرية الاستبداد المتأخر القائم على ذريعة محاربة الاستبداد السلفي أو الأصل.
هذا العمل المغناطيسي؛ عمليات الاستبداد داخل الأفران الثقافية قد ولد الكثير من الغموض في تكوين النصوص، بل عطل مفعول الأسئلة الخاصة باستبداد اليوم وبدكتاتوريات الحاضر بمجرد الاطلاع على استبداد المنشأ لاهوتا وفلسفة وأدبا ونظريات فكرية، بل حتى منشأ الإيروتيكيا الذي كان هو الأس الأعظم في بناء السلطات وأنظمة الإرهاب تاريخيا.[10]
ومسؤولية المثقف العربي هي القيام بنقل التناقضات الموجودة داخل المجتمع إلى أحاسيس أفراد هذا المجتمع ووعيهم ومن هنا فالمثقف إنسان على وعي بالتناقضات الاجتماعية وعلى وعي بالعوامل الصحيحة لهذا التناقض والتضاد وعلى وعي باحتياجات هذا العصر وهذا الجيل، ومسئول عن إبداء طريق الخلاص للمجتمع في هذا الوضع المتناقض المدان وتحديد الحلول والمثل المشتركة للمجتمع ومنحه نوعا من العشق والإيمان المشترك الراسخ للناس الذين يعيشون في الخضم البارد الراكد لمجتمعهم التقليدي المنحط يحدث فيه حركة وينقل إلى مواطنيه علمه ووعيه.
وفي كلمة واحدة يقوم بدور النبوة في مجتمعه هو الذي يواصل طريق الأنبياء في التاريخ أي خلق المحب والإيمان والحركة نحو الهدى والعدالة وتكون لغته مناسبة لهذا العصر وحلوله متناسبة مع هذه التناقضات وأسسه متناسبة مع هذه الثقافة.[11]
غياب الحريات السياسية في الوطن العربي
تتعرض الدول العربية منذ نهاية الحرب الباردة، خاصة منذ الاحتلال الأمريكي للعـراق، لضـغوط داخليـة خارجيـة متزايـدة لتبنـى إصـلاحات سياسـية وديمقراطيـة حقيقيـة تـــؤدي إلى إطـــلاق الحريـــات السياســـية والمدنيـــة وحريـــة تشـــكيل الأحـــزاب والجمعيـــات والاتحادات والى وضع ضمانات تضمن نزاهة الانتخابات وحرية الصحافة والإعلام، إلا أن الـــدول العربيـــة لـــم تســـتجب لهـــذه الضـــغوطات، واكتفـــت بإدخـــال بعـــض الإصلاحات الشكلية التي لم تغير من مضمون المنظومة السلطوية، وحتى الدول التي سمحت بقدر أكبر من التعددية السياسية، مثل المغرب والكويـت ومصـر، فقـد اعتمـدت علـى ترسـانة واسـعة مـن الأدوات القانونيـة والأمنيـة والإداريـة لتقييـد الحريـات والأحـزاب والإعــــلام ومنظمــــات المجتمــــع المــــدني، وقــــد أدى امتنــــاع الــــدول العربيــــة عــــن تبنــــي إصلاحات سياسية حقيقية إلى انصراف المواطنين عن المشاركة فـي العمليـة السياسـية وإلى ضعف وترهل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، ولـو تأمل الناظر فـي البنـى الاجتماعيـة القائمـة علـى السـاحة العربيـة لرأى أن البنـى السـائدة، علـى رغـم كـل التسـميات الحديثـة، هـي تلـك التـي لا تعتـرف بـالفرد واسـتقلاليته وقراره الحر، الأمر الذي يشكل ركنا أساسيا من أركان الحداثة، وقد لوحظ منذ الثمانينيات من القرن الماضي هيمنة التنظيمات الطائفية والمذهبيـة في الأحزاب والنقابات والجمعيات العربيـة، كمـا أن لـيس مـن الصـعب ملاحظـة التمـايز الاجتمـــاعي الفـــادح بـــين المـــواطنين؛ الخلـــل الـــذي عملـــت علـــى التخفيـــف مـــن وطأتـــه مجتمعات الحداثة من خلال تشريعات مدنية وأنظمة حماية اجتماعية، كما نتج عن انغلاق المجال السياسي اتجاه المهتمين بالشأن العام، خاصة مـن أبنـاء الطبقـة الوسـطى المتعلمـة المشـاركة مـن خـلال قنـوات بديلـة، وفـي مقـدمتها الحركات الدينية والعرقية والتـي تحولـت إلى أهـم فاعـل سياسـي فـي مواجهـة النظم المستبدة في معظم الدول العربية.
أما على الصعيد التنظيمي المؤسساتي، فعلى رغم العنـاوين البـاهرة التـي تـدعي الحداثة والتنظيم العصري، لم تقـم بعـد فـي العـالم العربـي المؤسسـة القانونيـة التـي تقـدم العمــل المؤسســي وحكــم القــانون والصــالح العــام فــي الــبلاد العربيــة الناجمة عن الفساد، ويفرط في أداء الواجب الوظيفي والمهني، فيفقد القـانون هيبتـه فـي المجتمــــــع، وتفلــــــت المخالفــــــات الصــــــريحة والصــــــارخة لأمــــــن المجتمــــــع الاقتصــــــادي والاجتماعي من العقاب، وتتآكـل القـيم والمثـل التـي تعلـي مـن شـأن الصـالح العـام، كمـا تتحكم في الوظائف العامة المحسوبية والعوامل الشخصية، مـا لا يتفـق البتـة مع معايير الحداثة التي تأخذ فقط في الحسبان الكفاءة الذاتية والصالح العام.[12]
تأسيسا على ما سبق يمكن القول إن حضور المثقف داخل السلطة السياسية في الوطن العربي حضور باهت، إن لم نقل منعدم أما مسؤوليته اتجاه مجتمعه؛ فهي لا تتعدى أن تكون مجرد النظر إلى الأحداث من بعيد ومحاولة نقل تقارير أدبية لها حينا، ومحاولة نقدها من وراء حجاب الإعلام الرقمي أحيانا أخرى.