وجود المعرب في القرآن الكريم وأقوال العلماء فيه
كاتبة: نوال الراضي
تعد قضية وجود المعرب في القرآن واحدة من الإشكاليات المطروحة في التراث الإسلامي؛ إذ خلقت تراثا هائلا من أقوال اللغويين والأصوليين وكانت إسهاماتهم متميزة في دراسة قضية المعرب في القرآن من جوانبها المختلفة، فما هو المعرب إذن، وما هي أقول العلماء حول وجوده في القرآن الكريم؟
للإجابة على هذا السؤال قسمت ورقتي البحثية إلى المباحث التالية:
المبحث الأول: مفهوم المعرب لغة واصطلاحا
المطلب الأول: المعرب لغة:
من مادة (عرب) يقال أعرب الأعجمي إعرابا وتعرب تعربا، واستعرب استعرابا، كل ذلك للأغتم دون الفصيح[1]، أي الذي يلحد في كلامه والإعراب والتعريب واحد وهو الإبانة والإفصاح.[2]
المطلب الثاني: المعرب في الاصطلاح:
عرف تاج الدين السبكي المعرب بقوله: (لفظ غير علم استعمله العرب في معنى وضع له من غير لغتهم).
وإنما وضع السبكي قيد (العلم) ليخرج الأعلام كإبراهيم وإسماعيل، ولدفع إشكال مفاده أن هذه الأسماء من الصعوبة بمكان إثبات عربيتها، فكان وضعه هذا القيد ليتساوق مع مذهبه القائل بعدم ورود المعرب في القرآن، ومن الأدلة المساقة بهذا المسلك أن الأعلام بحسب وضعها العلمي ليس مما ينسب إلى لغة دون لغة، إذ المقصود منها تعيين المسمى مطلقا فلم توضع بأصل اللغة بل وضعت بأوضاع متجددة، والكلام في الأوضاع أصيلة، ولكن السبكي الذي شرح به منهاج البيضاوي (ت 685هـ)، أدخله في المعرب فيسمى به، فيكون السبكي ممن قال بوقوع العلم الأعجمي في القرآن كما قال جلال الدين المحلي(ت 864هـ).
إذن فقد اتفقوا على أن العلم الأعجمي مستعمل وواقع في القرآن الكريم، ولكن السبكي في جمع الجوامع لم يدخله في مفهوم المعرب، والذي يبدو أنه استقر عليه بعد أن اختار خلافه في الإبهاج في شرح المنهاج.
أما الزركشي فقد أدخل العلم في المعرب إذ قال: (المعرب بتشديد الراء وفتحها ما أصله أعجمي ثم عرب أي استعمله العرب على نحو استعمالها لكلامها)، وكذلك أدخله الشريف الجرجاني (ت 816هـ) إذ قال في تعريفه: (المعرب لفظ وضعه غير العرب ثم استعملته العرب بناء على هذا الوضع).
وهو عند بن بدران الدمشقي: (ما أصله أعجمي ثم عرب أي استعملته العرب على نحو استعمالها لكلامها).[3]
المبحث الثاني: نشوء المعنى الاصطلاحي للفظة المعرب عند العرب وإنتاجاتهم العلمية حول فيه
المطلب الأول: نشوء المعنى الاصطلاحي للفظة المعرب عند العرب
من الراجح أن تكون البذور الأولى للمصطلح اللغوي قد ظهرت إثر الاختلاف التأصيلي، وحتى الدلالي، الذي ظهر بين الصحابة ثم التابعين وكذا العلماء حول حقيقة معنى كثير من الألفاظ الغريبة في القرآن ونشوء التنازع بينه حول دلالتها وكذا أصولها اللغوية، وقد أثيرت مسألة المعرب في البحث اللغوي عند العرب في مراحل مبكرة جدا تعود جذورها الأولى إلى بدايات القرن الهجري الأول حين بدأت الحركة العلمية الناشطة التي دارت حول القرآن الكريم وعلومه لكن المصطلح المعروف آنذاك والدال على الألفاظ المعربة كان مصطلح (الأعجمي)، ولقد تواتر عند العرب استعماله قبل مصطلح معرب، فكل كلام غير عربي عند العرب هو أعجمي.[4]
المطلب الثاني: إنتاجات علمية حول المعرب في القرآن الكريم
ألف علماء المسلمين مجموعة من الكتب حول موضوع المعرب في القرآن الكريم،، ومن بين الإنتاجات التي ألفت في هذا المجال أذكر مصدرين مهمين هما:
- المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب لجلال الدين السيوطي (749ه/911م)، وقد تناول فيه الكلمات المعربة في القرآن وأورد أقوال العلماء فيه، ومرجعه في ذلك ما سبقه من الكتب في الموضوع، وذكر أن هذا لم يجتمع في كتاب قبل، وأنه أول كتاب صحيح بالنسبة لصاحبه من نوعه، بعد الذي نسب لابن عباس ظنا.
- شفاء الغليل فيما في القرآن من كلام الدخيل لشهاب الدين الخفاجي (977ه/1069م) وهو كتاب له قيمة علمية تجعله متقدما من غيره، لما تضمنه من مواد جديدة لم يسبق إليها، تتمثل في الكلمات المولدة، تناول فيه حوالي ألف وثلاثمئة وتسع وثمانين كلمة، أي ما يعادل ضعف ما جاء في معرب الجوالقي.[5]
المبحث الثالث: اختلاف العلماء في وقوع المعرب في القرآن الكريم وشبهات وأباطيل المستشرقين حوله
المطلب الأول: اختلاف العلماء في وقوع المعرب في القرآن الكريم
تعد مسألة وجود ألفاظ غير عربية في القرآن الكريم من المسائل التي كثر حولها الجدل قديما وحديثا، مما جعلها تفوز بقسط وافر من كتابات القدماء والمحدثين، من مؤيد لورودها في الذكر الحكيم ومن مخالف لذلك، ولكل حججه وأدلته المنقولة أو المعقولة، ولذلك نراهم قد انقسموا على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ذهب إلى منع وقوع الدخيل في القرآن الكريم ومن هؤلاء الإمام الشافعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى وابن فارس ومجاهد وعكرمة، ومن المحدثين الشيخ أحمد محمد شاكر والدكتور عبد العال سالم مكرم وغيرهم.
واستدلوا على ذلك بآيات قرآنية عديدة تؤكد أنه: قرآن بلسان عربي مبين، منها:
- قوله تعالى: "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون".[6]
- وقوله: "وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا".[7]
- وقوله: "قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون".[8]
- وقوله: "كتاب فصلت آياته، قرآنا عربيا لقوم يعلمون".[9]
- وقوله: "وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها".[10]
- وقوله: "إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون".[11]
- وقوله: "وهذا كتاب مصدق لكتاب موسى لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا".[12]
- وقوله: "نزل به الروح الأمين بلسان عربي مبين".[13]
- وقوله: "وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ".[14]
القسم الثاني: ذهب إلى وقوع الدخيل في القرآن الكريم، وبهذا الرأي قال جمهرة من العلماء والفقهاء، ومنهم السيوطي وابن جني والضحاك وبه قال سعيد بن جبير ومن المحدثين الدكتور رمضان عبد التواب.
القسم الثالث: ويتزعمه أبو عبيد القاسم بن سلام ويرى تصديق الفريقين السابقين معا، حيث وازن بين رأي شيخه أبي عبيدة ورأي السلف الصالح، وانتهى إلى القول بعربية هذه الألفاظ بعد أن عربتها العرب وهذا رأي مال إليه الوالقي وابن الجوزي وآخرون من القدماء ومن المحدثين الشيخ عبد القادر المغربي.[15]
بعض الأمثلة من هذه الكلمات الأعجمية ولغتها الأصلية، ومعناها بالعربية، وموقعها في السور القرآنية.[16]
* الطور: سريانية معناها الجبل، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ".[17]
* طفِقا: رومية معناها قصدا، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ".[18]
وقد ذكرت هذه اللفظة في موضع آخر من القرآن الكريم هو قوله سبحانه وتعالى: "فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ".[19]
* الرقيم: رومية معناها اللوح، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا".[20]
* هدنا: عبرانية معناها تُبْنا، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ".[21]
* طه: عبرانية معناها طأْ يا رَجُل، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى".[22]
* سينين: عبرانية معناها حسن، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ".[23]
* السجل: فارسية معناها الكتاب، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ".[24]
* السندس: هندية معناها الرقيق من الستر، والإستبرق: فارسية، معناها الغليظ،
وموضعهما قوله سبحانه وتعالى: "يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ".[25]
* السرىُّ: يونانية معناها النهر الصغير، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا".[26]
* المشكاة: حبشية معناها الكوة، والدري حبشية أيضا معناها المضيء، وموضعهما قوله سبحانه وتعالى: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚوَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".[27]
* ناشئة الليل: حبشية معناها قام من الليل، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا".[28]
* كِفْلين: حبشية معناها ضعفين، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ".[29]
القَسْوَرَة: حبشية معناها الأسد، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ".[30]
* الملة الآخرة: قبطية معناها الأولى، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ".[31]
* وراءهم: قبطية معناها أمامهم، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: "وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا".[32]
* بطائنها: قبطية، معناها ظواهرها، وموضعها قوله سبحانه وتعالى: " مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ".[33]
المطلب الثاني: شبهات وأباطيل حول المعرب في القرآن الكريم
اعتمد المستشرقون على الآراء التي أكدت على وجود ألفاظ أعجمية في القرآن وأخذوا كتاب الإتقان للسيوطي مصدرا أساسيا لتأكيد وجود كلمات أعجمية بصفة عامة، وكلمات سريانية بصفة خاصة في القرآن.
لا شك أن المغرضين للإسلام يصلون ليلهم بنهارهم، جريا وراء التشكيك في الإسلام، وتشويه صورته، طمسا للحقائق وإفسادا للعقائد، ونيلا من صاحب الرسالة العظمى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقضية المعرب في القرآن الكريم، كانت نغمة كثيرا ما ورددت على قيثارة المغرضين للإسلام.
فلقد قلبوا الحقائق، واتهموا فقهاء اللغة العربية القائلين بعدم ورود المعرب في القرآن الكريم، بالتعصب والعنصرية؟ بل وادعى بعضهم زورا وبهتانا أن ورود المعرب في القرآن الكريم من باب التعجيز لا الإعجاز.
وترأس هذه الشبهات: الخوري حداد في كتابه الموسوم: (نظم القرآن والكتاب) والدكتور لويس عوض في كتابه (مقدمة في فقه اللغة الغربية).
ويأتي الرد على هاته الشبهات من خلال: ما تعرض له الرافعي رحمه الله، في كتابه (إعجاز القرآن) لبيان معنى الغريب في القرآن فقال: في القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب؛ وليس المراد بغرابتها أنها منكرة أو نافرة أو شاذة، فإن القرآن الكريم منزه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة هاهنا هي التي تكون حسنة مستغربة في التأويل، بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس).
غير أن الخوري حداد في كتابه (نظم القرآن والكتاب) بعد أن نقل عن الرافعي ما ذكره في معنى الغريب، وعن السيوطي ما أورده من الكلمات التي ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما – تفسيرا لها-، قال: (غريب القرآن هذا مشكل في مصادره وفي مدى إعجازه).
ثم أخذ يصور هذا الإشكال بقوله: (قد نزل القرآن بلسان قومه لينذر أم القرى وما حولها، فمن أين جاءه؟ هل من مصادر في البيئة التي جاء فيها من اللغات الدينية كالعبرانية والسريانية والحبشية التي كانت قائمة بين ظهرانهم للصلاة و قراءة الكتاب المقدس؟ أم هل من سائر اللغات العربية غير الحجازية التي انتشر فيها القرآن بسبعة أحرف؟).
قد يكون هذا وذاك، وقد يكون أسلوبا منه لتعجيزهم بغيب القرآن.
والقول استعانة بالله في كف هذا الزيف الذي لفقه والجهل الذي تمثل به:
1- إن هذا الإشكال الذي صوره عن مصدر الغريب، يتنافى أولا وقبل كل شيء مع بديهيات الأمور المسلمة التي لا تحتاج في إثباتها إلى دليل؛ ذلك أنه من المعلوم عدم تساوي جميع أفراد أمة من الأمم بمعرفة ما في لغتها من المفردات، وما لها من الدلالات الأصيلة حالة الإفراد، وما يتبعها من الدلالات الفرعية حالة التركيب، يتطلبها السياق، حتى يكون العامي ومن لاحظ له من العلم هو والمثقف والعالم النحرير، على درجة واحدة في العلم باللغة، دون أن يخفى عليه شيء من أدبها، فلا يكون بحاجة إلى الاستفسار عن كلمة واحدة إذا ما وضع تراثها أمامه أو ألقي على مسمع منه، واللغة العربية شأن سائر اللغات، لا يتساوى جميع أهلها بمعرفة كل ما دون فيها من تراثها.
2- من الواضح المسلم به أيضا أن كل لغة من اللغات تتألف من عدد من اللهجات تختلف فيما بينها في كيفية النطق باللغة الواحدة وفي بعض القواعد اللغوية وفي مدلولات بعض الألفاظ التي نلاحظ اختلافها من لهجة إلى أخرى واختلافها عن اللغة الفصحى التي يشتهر أمرها بين، الجميع فكثير من ألفاظ اللغة الرسمية ما هو إلا قليل الاستعمال في بعض لهجاتها، بل إن منها ما هو مهجور الاستعمال إلا حينما يريد الواحد منهم أن يرتفع عن نطاق لهجته المحلية.
وهذا سبب مهم في خفاء بعض ألفاظ اللغة الرسمية على كثير من الدهماء، واللغة العربية كانت تتألف من عدة لهجات قبل نزول القرآن الكريم، تختلف كل منها عن الأخرى قليلا أو كثيرا حسب عوامل الاتصال فيما بينها.
ومن المسلم به لدى علماء اللغة أن هذه اللهجات قد أخذت تتقارب كثيرا بفضل نشاط عوامل الاتصال فيما بينها، حتى توحدت في تلك اللغة الأدبية التي أخذت محاسن ما في هذه اللهجات، ولفظت كل مستكره ومستشبع، وقد تمثلت هذه اللغة في لهجة قريش ، لما كان لها من الأثر الأكبر في توحيد هذه اللهجات، ولذلك فإن القرآن نزل أول ما نزل بها، ثم أذن الله بقراءته على سبعة أحرف بعد دخول غيرها من القبائل في الإسلام.
3- وإذا كانت هذه الألفاظ التي نسبها العلماء دون تحقيقي إلى هذه اللهجات المختلفة وهي بلا شك أفصح ما فيها فكيف لا تكون معروفة في هذه اللغة التي جمعت محاسن هذه اللهجات، ثم إن الذي نص عليه العلماء وضحوه، كما أشرنا من أنه لا تنافي بين كون هذه الألفاظ من لهجات أخرى غير لهجة قريش وبين نزول القرآن بلغة قريش، لأن هذه الألفاظ وإن كانت أصلا في لهجات غيرها، إلا أنها قد أدخلتها في لغتها واستعملتها في لسانها حتى غدت من صميم لغتها.
ولو كان عند هذا الخوري شيء من الاطلاع، وكان الحق قصده لما رأى هذا التناقض بين نزول القرآن بلغة قريش وبين ما ذكره العلماء من ألفاظ نسبوها إلى غير لغة قريش، ولكن الهوى يضل ويعمي ويحجب عن العين نور الحقيقة، وإذا كان أظهر من الشمس في كبد السماء.
4- ومع جلاء هذه الحقيقة التي جهلها الخوري أو تجاهلها، نراه يزعم أن وجود هذا الغريب في القرآن الكريم هو من قبيل التعجيز لا من قبيل الإعجاز، فيقول هل في هذا التعجيز إعجاز؟ هل إعجازهم لغريب اللغة المستغربة في التأويل إعجاز في الفصاحة وفي البيان والتبيين؟
حتى كان ابن عباس ترجمان القرآن، ذلك المعجم اللغوي الحي الذي كانوا يرجعون إليه بعد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل القرآن أعلمه إلا أربعا (غسلين وحنانا وأواها والرقيم).
وحتى يسأل أبو بكر الصديق عن معنى قوله، (وفاكهة وأبا) فيقول أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
ثم يقول: (إذا كان في القرآن سبعمائة لفظة خرجت عن وضعها الأصلي في لغة العرب عند أئمة الصحابة مستغربة في التأويل وإذا كان اللسان العربي لا يستبينه أهله المقربون إلى النبي صلى لله عليه وسلم فكيف يكون فصيحا في لسانه بليغا في بيانه؟).
فالقول إجابة عليه: إن في هذا الذي ذكره خلطا كبيرا، وتحريفا للكلم عن مواضعه من أجل الوصول إلى غايته في التشكيك في إعجاز القرآن وروعة ما فيه من البيان الذي أقر به الأعداء.[34]
من الأسباب التي ذكرت حول وجود المعرب في القرآن:
- عدم إلمام علماء السلف باللغات السامية، ومن ثم كان حكمهم على كثير من الألفاظ التي لم تكن مستخدمة في عصرهم أو بيئتهم بأعجميتها، وردها إلى العبرية والسريانية.
- وجود تناقض بين آراء هؤلاء العلماء بدا واضحا في نسبة بعض الكلمات إلى أسرتين متباينتين تماما كردهم بعض الألفاظ إلى أصل عبري وسرياني، وإلى أصل رومي في نفس الوقت.
- عدم التفرقة بين اليونانية واللاتينية عند استخدام مصطلح رومي مع وجود تباين بين اللغتين.
- خلو منهج السيوطي من أي رؤية نقدية تجاه الألفاظ التي نقلها من السلف على الرغم من وجود تناقضات في كثير منها، كما يتضح عدم إلمام السيوطي باللغات.
- اتضحت خطورة آراء السيوطي ونقله للألفاظ التي قيل بأعجميتها وإقراره لذلك فيما وجدناه عند المستشرقين وغيرهم من الباحثين، إذ اعتمدوا على هذه الآراء التي مهدت الطريق للطعن في عروبة القرآن من جانب وتأكيد الزعم القائل بأخذ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن لفظا ومعنى من اليهود والنصارى.[35]
تأسيسا على ما سبق يتضح جليا أن المعرب أحدث ضجة وسط علماء المسلمين وأنزل على القرآن وابلا من الشبهات، ويبقى معناه الدلالي وسبب وجوده في القرآن الكريم، في علم رب العالمين.