الإسلام دين وسطية واعتدال
مما لا شك فيه أن لمبدأ الوسطية شأنا عظيما، ومدلولا ساميا في الإسلام، ومما لا شك فيه أيضا أن وراء ذلك مقصدا وغاية، فالله سبحانه وتعالى أراد من عباده أن يتصفوا بهذا الوصف ويكون منهجا ومسلكا في حياتهم الدنيا وعلى هذا الأساس وصفت هذه الأمة بالوسطية وسميت بالأمة الوسط ومعنى هذه التسمية أنها أفضل الأمم وأعدلها وأكملها وأبعدها عن الغلو، وعليه تكون وسطيتها حامية لها مما يلحق بغيرها-إذا جانبت الوسط-من النقائص والعيوب من جميع النواحي.
فما مفهوم الوسطية إذن وما أهميتها؟ وما قيمها وما معيقاتها وما منهجها وما مميزاتها؟
هذه الأسئلة وغيرها سأحاول الإجابة عنها من خلال ورقتي البحثية هاته الموسومة ب: الإسلام دين وسطية واعتدال.
المبحث الأول: مفهوم الوسطية وأهميتها
المطلب الأول: مفهوم الوسطية
ارتبط مفهوم الوسطية بالاعتدال والخيرية والعدل والتوسط وكل هذه الدلائل صحيحة، لأنها تنطلق من المعنى المراد في معاجم اللغة العربية، ومن معانيها الاصطلاحية ما يلي:
- كل أمر توفرت فيه محاسن الطرفين، وانتفت منه مساوئهما، ويكون وسطا، لأنه حوى الخيرين وابتعد عن الشرين.[1]
- الوسطية وسط بين من غلا في أمر الدنيا ولم يهتم بالآخرة، وبين من غلا في أمر الآخرة ونظر إلى الدنيا نظرة ازدراء وابتعاد، وهكذا الوسطية تؤدي إلى التوازن الظاهر بين الدين والدنيا، وبين مطالب البدن ومطالب الروح، وبين عالم الغيب وعالم الشهادة، ولقد سادت الوسطية بهذا المفهوم في الفكر الإسلامي في العقيدة والتشريع والعبادة والدعوة إلى الله.[2]
- الوسطية الحد الذي يقوم على أساس الإنصاف والعدل والتسوية، بعيدا عن الغلو والتقصير، والإفراط والتفريط، مراعيا ظاهرة التوازن الدقيقة، ومبدأ القسمة الحقة، سالكا الطريق القويم والمنهج المستقيم.[3]
- حالة خطابية أو سلوكية محمودة تعصم الفرد من الميل إلى جانبي الإفراط والتفريط، حيث تقيمه على طريق الاعتدال والتوازن في كل أموره الحياتية.[4]
- منهج متكامل شامل، غير محصور في ركن من الأركان، ولا جزئية من الجزئيات، ولا في حكم من الأحكام ،ولا أصل من الأصول؛ فالإسلام كله وسط وهذه الأمة أمة الوسط.[5]
- التمسك الكامل بدين الله تعالى الذي ارتضاه للناس كافة، ولو كره ذلك من كره، والسعي لنشره بينهم من غير تحريف ولا تزييف ولا مخادعة ولا مراوغة، وعرضه عليهم عرضا صريحا بينا من غير تلاعب بأحكامه، ولا تمييع لأصوله، ولا تغيير لشرائعه، ولا إخفاء لحقائقه، ولا تحرج من تقرير مسائله، ثم ليقبله منهم من قبل وليرده من يرد.[6]
المطلب الثاني: أهمية الوسطية في الإسلام
من أبرز سمات الدين الإسلامي: العدل والإنصاف وعدم الظلم والحكم بالقسطاس المستقيم وإن خير من يمثل الوسطية في الأقوال والأعمال والمعتقدات-الوسطية التي جاء بها الإسلام- خير من يمثلها: هم أهل السنة والجماعة الذين تمثلوا الإسلام في جميع أمورهم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين إتباعا للكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة وإن كل معنى من معاني الوسطية ثبت لهذه الأمة منه الحظ الأوفر والنصيب الأعلى؛ وما ذاك إلا لأنهم الأنموذج الأمثل لتمثيل الإسلام، وقد وجعل الله الأمة الإسلامية أمة وسطا أي عدولا لا يميلون عن الحق إلى غلو ولا إلى جفاء، بل يتوسطون ويعتدلون؛ إن دين الإسلام قد نهى عن الغلو والجفاء، وأمر بالتوسط والاعتدال في الأمور كلها.[7]
- مصداقا لقوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا".[8]
فكانت الوسطية والاعتدال منهجا ميز الله به هذه الأمة عن غيرها من الأمم السابقة، وجعل هذه الميزة شعارا بارزا للدين، حتى تكون منسجمة مع الفطرة البشرية وصالحة لكل الناس، وملائمة لكل زمان ومكان، لأن الاعتدال مطلوب في الأمور باعتباره وسطا بين الغلو والتقصير، والإفراط والتفريط فكما أن الغلو تجاوز للحد، وإرهاق للنفس، وتكليفها بما لا تطيق، فإن التفريط تقصير في حق النفس البشرية، لأنه يعطل مواهبها، فالوسطية صبغة عامة نهجها في التشريع إقامة التوازن بين مطالب الروح والجسد، والعمل للدين والآخرة[9]، مصداقا لقوله تعالى: ''والذين إذا أنفقوا لم يسفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما''.[10]
المبحث الثاني: قيم الوسطية ومعيقاتها
المطلب الأول: قيم الوسطية
إن قيم الوسطية مرتبة عزيزة المنال، غالية الثمن، كيف لا وهي سمة هذه الأمة، ومحور تميزها بين الأمم؟ وقد جعلها الله خاصية من خصائصها، تكرما منه وفضلا وتكمن أهمية قيم الوسطية في النقاط التالية:
- تؤدي دورا هاما في تشكيل الشخصية الفردية، وتحديد أهدافها في إطار معياري صحيح، فهي تعد جزءا من المرجع السلوكي للإنسان ونشاطه.
- تهيئ للفرد اختيارات متنوعة تحدد السلوك الصادر عنه، فيمكن التنبؤ بسلوك صاحبها متى ما عرف لديه من قيم في المواقف المختلفة، وبالتالي يكون التنبؤ معه في ضوء سلوكه المتوقع.
- تعطي إمكانية ما هو مطلوب من الفرد، وتمنحه القدرة على التكيف والتوافق، وتحقيق الرضا عن نفسه، لتجاوبه مع الجماعة في قيمها ومبادئها ومعتقداتها الصحيحة فتحقق له الإحساس بالأمان، وتعطي له التعبير عن نفسه، بل تساعده على فهم العالم المحيط به، وتوسع إطاره المرجعي في فهم حياته وعلاقاته.
- تعمل على إصلاح الفرد نفسيا وخلقيا وتوجهه نحو التوازن في حياته كلها، فهي تعمل على ضبط شهواته وغرائزه بضوابط الشريعة السمحاء، كي لا تتغلب على عقله ووجدانه.
- تحل الصراعات والأزمات التي يتعرض لها الإنسان نتيجة التطور العلمي والتكنولوجي، كما توجد نوعا من التكامل لكل جوانب الحياة.
- تحقق التوازن بين الأفراد والجماعة، وبين الدين والدنيا، وبين المثالية والواقعية، وبين. الجانب الروحي والمادي.
- تحفظ للمجتمع تماسكه، وتساعده على مواجهة التغيرات التي تحدث بتحديد الاختيارات الصحيحة، وذلك يسهل على الناس حياتهم، ويحفظ للمجتمع استقراره وكيانه في إطار قيمي موحد.
- شيوع السلام والأمان والعدل والاستقرار للمجتمع في ظل الالتزام بقيم الوسطية كمنهج حياة، أما إذا حصل الإفراط والتفريط، فيقع المجتمع في مخاطر لا تعد ولا تحصى.
- تساعد على الاستفادة من جميع طاقات المجتمع، وجهوده في البناء والعمران المادي والتربوي والعلمي والثقافي، من غير إفراط ولا تفريط.
- وأخيرا إن الالتزام بقيم الوسطية سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة يحقق السعادة والراحة والطمأنينة التي تسعى لها البشرية بالوسائل المادية المتنوعة.[11]
المطلب الثاني: معوقات الوسطية
المقصود بمعوقات الوسطية هي تلك العقبات التي تمنع وتحجز المرء المسلم وتثبطه من الالتزام بطريق الصراط المستقيم، ولا يخفى على أحد أن النصوص الشرعية وأقوال العلماء دلت على أنه ما من مجتمع تغيب فيه الوسطية والاعتدال والهدي النبوي، إلا وانتشرت فيه البدع والضلالات والأهواء وهذه المعوقات على كثرتها وتنوعها تعود إلى أصلين إما إلى الشبهات وإما إلى الشهوات، ثم إن منهج الإسلام يرفض رفضا صريحا بجميع أنواعه، لأنه يفضي إلى الخروج عن الطريق المستقيم، ويدعوا إلى الكفر والضلال والهلاك، وما ظهرت الفرق الضالة والمحدثات إلا بظهور الغلو، ولا نجاة لهذه الفرق من غلوها وتطرفها إلا بالرجوع إلى منهج القرآن والسنة.
وأبرز المعوقات والموانع التي تقف وراء غياب الوسطية أو إضعافها هي على النحو التالي:
- الجهل بالدين وأحكامه: وهو آفة خطيرة وداء عظيم يحجم عن معرفة الحق، ويبعد عن سنن الهدى، ويؤدي إلى الضلال، فالجهل بالدين يعد من المعوقات الرئيسية للابتعاد عن الوسطية؛ ومن الجهل بأحكام الدين أن نجد الشخص الذي قل زاده من التدين علما وعملا، أو عاش في محيط تجرا على محارم الله وتنكر لشرائعه، كلما زادت مسافة البعد بينه وبين الدين، زاد استغرابه بل إنكاره، بل اتهامه لكل من يتمسك بعروة الدين ويلجم نفسه بلجام التقوى ويسأل في كل شيء يعرض له أو يعرض عليه أحلال هو أم حرام؟
- إتباع الهوى: وهو أحد أسباب الابتعاد عن الوسطية، ونشأة الكثير من الفرق الضالة والطوائف المنحرفة، لأن أصحاب هذه الفرق قدموا أهواءهم على الشرع أولا، ثم حاولوا جاهدين أن يستدلوا بالشريعة على أهوائهم فحرفوا النصوص والأدلة لتوافق ما هم عليه من البدع، فإتباع الهوى يؤدي إلى تحكيم عقول البشر القاصرة على النصوص القاطعة وهذا يؤدي إلى غياب مبدأ الوسطية في حياة المجتمعات.
- الابتداع: وهو ما خالف الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات، وكل من دان بشيء لم يشرعه الله، فذلك بدعة وإن كان متداولا فيه، فالابتداع في الدين طعن في الشريعة الإسلامية وقدح في كمالها واتهام للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به.
- التقليد المذموم وهو الأخطر على الإطلاق حيث إن المرء لا يرى إلا ذلك الشخص الذي يقلده فإن عمل خيرا تابعه عليه-وهذا حسن-ولكن الآفة أنه حتى إن عمل شرا تابعه عليه، فإن المقلد والمتعصب يقدم قول شيخه وإمامه على قول الله تعالى وقول رسوله الكريم محمد عليه أفضل الصلوات؛ كان ذلك في الأصول أو كان في الفروع ونتيجة لهذا التقليد انتشرت البدع بين الناس وحالت بينهم وبين سماع الحق والهدى.[12]
المبحث الثالث: منهج الوسطية ومميزاتها
المطلب الأول: منهج الوسطية
يتميز المنهج أو التيار الداعي إلى الوسطية والتجديد، بالتركيز على جملة من المبادئ أو معالم أو قواعد فكرية، في فهمه للإسلام وعرضه لأصوله ومفاهيمه، عرف بها وعرفت به ونسبت إليه، وأصبحت معالم بارزة له، تجسد فكرته، وتوضح غايته، وتجلي منهجه، وتحدد مفاهيمه.
من أبرز هذه المبادئ مبدأ العلم الراسخ والفهم الشامل والمتوازن للإسلام، كما أنزله الله على رسوله، بحيث يتجلى فيه خصيصتان، الأولى: الشمول والتكامل، بوصفه عقيدة وشريعة، علما وعملا عبادة ومعاملة ثقافة وأخلاقا، حقا وقوة، دعوة ودولة، دينا ودنيا، حضارة وأمة، ورفض كل تجزئة لأحكام الإسلام وتعاليمه، كدعوى الذين يريدونه: أخلاقا بلا تعبد، أو تعبدا بلا أخلاق، أو عقيدة بلا شريعة أو دينا بلا دنيا''وان أحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك''.[13]
وبهذا يقدم الإسلام على أنه رسالة الإنسان كله ورسالة الكون كله، ورسالة الزمن كله ورسالة الحياة كلها
والخصيصة الثانية: هي المزج المتوازن بين المتقابلات أو الثنائيات، التي يتوهم كثيرون أنها متضادات لا يمكن الجمع بين بعضها البعض، كالمزج بين الروحية والمادية، بين الربانية والإنسانية، بين الفكر والوجدان، بين المثالية والواقعية بين الفردية والجماعية، بين نور العقل ونور الوحي، بين الدنيا والآخرة، بين حظ النفس وحق الرب وبين الإبداع المادي والاقتصادي والسمو الروحي والأخلاقي، بحيث يأخذ كل جانب مها حقه، بلا وكس ولا شطط، دون طغيان على الجانب الآخر، أو الجوانب الأخرى مصداقا لقوله تعالى: ''ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان''.[14]
ومن هنا تتكامل العناية بالعبادة، والثقافة، والرياضة، والفنون، والعلوم، فالعبادة تغذي الروح، والثقافة تغذي العقل، والرياضة تغذي الجسم، والفنون تغذي الوجدان، والعلوم تغذي الحياة.[15]
المطلب الثاني: مميزات الوسطية
أ- الوسطية والشهادة على الأمم
الوسطية من أبرز خصائص ومميزات الإسلام، وهي وسام شرف الأمة الإسلامية، بهذه الوسطية استحقت أمة الإسلام أن تكون شاهدة على الناس من حيث لا تشهد عليها أمة أخرى، قال تعالى:''وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس''.[16]
ب- الوسطية بين اللين والشدة
لقد امتازت الأمة الإسلامية بالوسطية بين اللين والشدة والصحابة رضوان الله عليهم تعلموا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يعتقد البعض أن الوسطية هي أن تكون لينا عند الشدائد شديدا عند اللين حتى تكون وسطا وهذا فهم يجانب الصواب بل ينبغي أن تكون شديدا عند الحرب وانتهاك حرمات الله ولينا وميسرا عند ما يكون الأمر بعيدا عن الإثم والحرمات وجهاد العدو وهذا هو الصواب، فوسطية الإسلام تظهر من استقراء وفهم عقائده ومبادئه، وأصوله ومفهوماته وأخلاقه وعباداته وشرائعه وأحكامه وحلوله لمشاكل الفرد والمجتمع واهتمامه بقضايا الأمة، فالإسلام وسط بين الأديان، والأمة الإسلامية وسط بين أهل الملل وأهل السنة والجماعة وسط بين الفرق.
والوسطية علة لتكليف الأمة بالشهادة على الأمم وإذا كانت الشهادة في أمر عادي ولو حقير الشأن لا تصلح إلا ممن كان عدلا تتوفر فيه شروط العدالة من العقل والصدق والأمانة ومكارم الأخلاق، فكيف الأمر بمن يكون شهيدا على الناس كل الناس؟
إن هذه الوسطية التي يقصد بها الشهادة تقتضي: عدالة الشاهد الذي لا بد أن يكون عاقلا عالما بما يشهد به صادقا وأن تثير في نفس الشاهد الاعتزاز والشعور بالكرامة والمسؤولية والثقة في آن واحد، أليس فيها معنى الوصاية على الأمم والإشراف على العالم والرقابة عليهم وقيادتهم.
إن هذه الشهادة وإن كانت في الآخرة فهي أيضا لا بد أن تبدأ من الدنيا، بحيث تتوافر لدى الأمة الوسط الشاهدة، أكرم السجايا وأجل المزايا، إذ لا يعقل أن يتخلف الشاهد عن مستوى المشهود عليه.
إن هذه الشهادة تلقي على أصحابها مسؤولية إنقاذ البشرية، فهم أصحاب الوسط السوي، وهم الشهداء المكلفون بجلب الناس إلى هذا الطريق من مهالك الإفراط والتفريط، فالإنسان – أي إنسان - لا يمكن أن يبقى محايدا في ظل انحرافات عن يمينه وعن يساره، وهو المختار وهو الشاهد على من حوله.
إن التفريط في هذا الواجب، أو الإخلال به هو التنازل عنه يعني فقدان الوسطية، وحرمان الشهادة وتضييع سمة وشعار وسم الله بهما هذه الأمة وجعله وسما تتميز به، في كل أمور حياتها إنها الأمة التي تشهد على الناس جميعا فتقيم بينهم العدل والقسط وهي شهيدة على الناس والرسول هو الذي يشهد عليها، يقرر لها بإذن ربه موازينها.[17]
تأسيسا على ما سبق يمكن القول: إن وسطية الإسلام من أبرز سماته، لذا وصف بها الله سبحانه وتعالى أمة الإسلام، فكانت خير أمة بين الأمم، يمثل إتباعها إلى الصراط المستقيم قمة وسطيتها وعدلها ويسر والاستقامة، وشملت مظاهرها جميع جوانبه العقائدية والتعبدية والتشريعية والأخلاقية، وإن للوسطية سمات وخصائص ومميزات عن غيرها، ومن أهم هذه المزايا الخيرية، العدل، الاستقامة، اليسر ورفع الحرج، الأمان والاطمئنان ودليل القوة.