بيتُ القراء و المدونين
  •  منذ 5 سنة
  •  1
  •  0

الأبعاد الدلالية والرمزية في ديوان "حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة"

الأبعاد الدلالية والرمزية في ديوان "حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة" للشاعر العربي سيف الرحبي.

بقلم: عزيز العرباوي: كاتب وناقد من المغرب

سيف الرحبي شاعر عماني عربي كبير ورئيس تحرير مجلة نزوى الثقافية الفصلية، ولد في قرية سرور بولاية سمائل العمانية عام 1956م، عمل بالعديد من المجالات الصحافية العربية، كما تمَّ ترجمة مختارات من أعماله الأدبية إلى العديد من اللغات العالمية خاصة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والهولندية... له العديد من الدواوين الشعرية مثل "نورسة الجنوب"، و"الجبل الأخضر"، و"أجراس القطيعة"، و"رأس المسافر"، و"مدينة واحدة لا تكفي لذبح عصفور"، و"رجل من الربع الخالي"، و"يد في آخر العالم"، و"حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة" الصادر عن دار الصدى بدبي عام 2009م، والذي سنحاول مقاربته نقدياً في هذه المقالة بشيء من التفصيل.

إن القراءة الأولى للديوان تجعلنا نكتشف لغته المكثفة والقوية، كما تدفعنا دفعاً إلى إعادة قراءته من جديد حتى نتشبع بها، ونكتشف من جديد مغاليق كل قصيدة على حدة حيث السفر في الدلالة والمعنى الموغل في التخيل والرمز والإيحاء. إنها قصائد تكشف أسراراً وآثاراً معينة في اختيارات الشاعر، وهنا نجد أنفسنا في رحلة لغوية تمعن في الإيقاع الجميل والموسيقى الشعرية الرائقة.

الشاعر سيف الرحبي صوت شعري له حضوره الكبير في سماء الشعر العربي، كلمته الشعرية المتميزة ترتقي إلى مكانة سامية، فتنمو بطريقة راقية كلما استمع إليها المتلقي لتكشف عن مكنونات متعددة الطبقات. حيث نجده استطاع في تجربته الشعرية أن يحافظ على تألقه الشعري ونقاء شاعريته باقتدار كبير، حيث الكلمة هي العمق والحضور والتفوق، والارتباط بالماضي والحاضر والمستقبل لتكتمل الرؤية والرؤيا، والتفاعل مع الحياة والواقع والمجتمع والناس والثقافة.

العنوان: عتبة نصية:

يرى الشاعر والناقد المغربي أحمد الدمناتي أن العنوان الذي وسم به الشاعر سيف الرحبي ديوانه هو "عتبة نصية تفيد في توجيه خطوط المقاربة في مساراتها الصحيحة، وللقارئ الحق في تأويل رؤية العنوان كما تشتهيها مقامات القراءة عنده (....) فالعنوان كعتبة نصية ونص مواز يفضي بنا للتجسس المسكون بمتعة الاكتشاف. فالبيوت تعرف من أبوابها قبل العبور لداخلها، والعنوان باب النص إذا تعذر استكشاف الحجاب المستور لكثافة اللغة"[1]. والتمعن في العنوان يقودنا مباشرة إلى اكتشاف غرابته وخرافيته من خلال تعلقه بعالم الخرافة والشعوذة والسحر. كما يحضر فيه الرمز في علاقته بالأسماء، وهذه الأسماء في حد ذاتها ترتبط بالغرابة والاستعارة (أسماء مستعارة)، وبالنداء (ينادون)، وكأن الشاعر يريد هنا الخروج عن العادة والمألوف من أجل البحث عن الغرابة والرمزية والتمويه والمراوغة والتخيل...

فالعنوان هو في حد ذاته نظام سيميائي له أبعاد دلالية ورمزية، تجذب القارئ والمتلقي بتتبع دلالاته المتعددة، ومحاولة فك شيفرته الرامزة. ولقد حاول الباحث السيميائي العناية بدراسة العناوين في النص الأدبي عامة، حيث ظهرت بحوث ودراسات لسانية سيميائية وتداولية. فالعنوان، حسب هذا الطرح، هو أول عتبة يمكن أن يطأها الباحث السيميائي قصد استنطاقها واستقرائها بصرياً ولسانياً[2]... والعناوين لا يمكن اعتبارها مجرد أغراض من أغراض القصيدة الشعرية، إنما هي أمثلة وإشارات مضمنة لأخبار أو قصص مرَّت وعرفت، فعنوان الديوان الذي بين أيدينا (حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة) هو إشارة دلالية توضع مضمنة في الديوان، بحيث تحمل شكلاً من أشكال التضمين. فالشعر في حد ذاته قائم على التخييل، وفي هذا يقول جون كوهين عن العنونة بأنها واقعة قلما اهتمت بها الشعرية بمعنى "أن النثر –علمياً أم أدبياً- يتوفر دائماً على العنوان، أي إن العنونة من سمات النص النثري، لأن النثر قائم على الأصول والقواعد المنطقية، بينما الشعر يمكن أن يستغنيَ عن العنوان، مادام يستند إلى اللانسجام، ويفتقر إلى الفكرة التركيبية التي توحد شتات النص المبعثر، وبالتالي قد يكون مطلع القصيدة عنواناً لها"[3].

إن العنوان هنا يحتفل بالسحرة في تناديهم لبعضهم، مستعملين في ذلك أسماء مستعارة غير معلومة، وهذا الأمر يتفاعل دلالياً مع نصوص الديوان، حيث الغرابة والرمزية والملامح الغرائبية والعجائبية المتعددة. فنستشعر هنا استيعاباً خاصاً لهذه القضايا والملامح المذكورة، حيث التشكل الدلالي المحدد والوحدات المكونة له، والمقومات الدلالية المتعددة فيه...

تحولات الفصول والأزمنة:

إن التمعن في نصوص الديوان يوضح بجلاء موقف الشاعر من التاريخ والأسطورة والحياة، حيث يعتمد على لغة شعرية متألقة تمتزج فيها الرمزية والإيحائية والغرائبية بالواقع والمعيش، يهدف منها إلى تكريس موقف ثقافي وسياسي معين يرتكز على العدالة والإنسانية والقيم، يقول في قصيدة "كيْ تعُودَ اليمَامَةُ":

كانَ عَلى الصَّيْفِ أنْ يضْمحِلَّ قلِيلاً

مُفْسحاً للخرِيفِ مكَاناً لائِقاً للأحْلامِ الشِّعْريةِ

بأوْراقِهَا الصُّفْرِ المُتسَاقِطةِ

كأَمْواتٍ لا يُعدُّونْ. (ص. 13).

تستدعي القصيدة، وقفات زمنية معينة، وتستحضر فصولاً تمثل الصدى الثقافي لها، فيتوحد الزمن بكل أشكاله وأنماطه في حركات متتابعة وحلقات متتالية، ضمن أزمان ذات شكل محسوس ومجرد في آنٍ معاً... فالزمن المحسوس، يستعين فيه الشاعر بالتحولات الطبيعية والبيئية المتنوعة، فيتمُّ استبدالها بواقع الناس وصراعاتهم وحروبهم المؤدية إلى كوارث ونتائج سلبية وكارثية عليهم، بل تؤدي إلى الموت والظلام والظلم والعدوان. أما الزمن المجرد فهو الذي يقود إلى كشف الزيف الذي أصبح يغلف حياة الناس وأحوالهم، والزمن الملتبس والذي يقيم صروحاً للاستعباد والقسوة والظلم والرجعية... يقول الشاعر:

كانَ علَى اللَّيْلِ أنْ يَغْمرَ البَسِيطَةَ

بِحُلْكتِهِ الحَنُونِ

التِي اسْتعَارَهَا منْ قَلْبِ المُحيطَاتِ المُدْلَهِمَّةِ. (ص. 13).

فالدلالات عندما يتمُّ استحضارها متجاورة بعضها إلى بعض في القصيدة تكون واضحة المعنى، قريبة إلى الفهم. وهكذا يتداخل الزمن وتجلياته المختلفة لينقلنا إلى أجواء مفعمة بالصور الشعرية، وإلى فضاءات متعددة الدلالات، حيث تنصهر فيها المواقف وتتفجر فيها الإبداعات، فتتجمع عناصر معينة تركز واقعاً كارثياً ينتج مجموعة من الصور والمواقف تقذف علاقاتها بمكنوناتها الدالة. فالزيف يفتقد الحقيقة والواقع، والظلام نقيض النور والضياء...

إن الشعر في حقيقته لا يفقد موقعه في الصراع الحياتي، ولا يحيد عن طريقه السليم في كشف الزيف والكذب والخداع، فالقضية تستدعي مشاهد ووقائع واضحة، وأبعاداً عميقة الدلالات، فلا يكون الفكر هجيناً، ولا العالم مغرقاً في الزيف. ومن هنا، نجد ذلك الفكر المتوهج المغرق في الإحساس بالزيف البشري وبالبهتان الإنساني، والذي يريد في النهاية فضح هذا الزيف والبهتان، فيعلن الشعر عن حسٍّ درامي يهدد العالم المتحول في سرعة مدهشة نحو التشرذم والانسحاق والضياع.

لقد أعطى الشاعر سيف الرحبي للشعر العربي زخمه وجماليته الخاصة، فكان شاعراً لا تخذله موهبته الشعرية، جريئاً واثقاً من إبداعه مستقلاً في مواقفه وآرائه، فلم يغبْ عن ذهنه الاختيار الصحيح للحفاظ على الذائقة الشعرية وتحقيق التوازن الإبداعي دون السقوط في مناطق الانحراف والفشل والتيه. وبذلك استطاع بشعره الجميل أن يحافظ على سيرورة أدائه الفني من خلال الصياغة الشعرية المحكمة والصور المختارة بعناية واللغة الشعرية الصافية والملفتة.

رؤى فكرية محددة:

في شعر سيف الرحبي نجد كلمات تتحدى روح الجمود والاستكانة والخذلان، حيث يتوسل كل الوسائل التي تساعده في تحديد رؤيته الفكرية والأدبية، لأنه لا يحلم بالوهم وغير المألوف، والخروج عن الواقع، بقدر ما يحلم بواقع جديد يكون فيه إدراك الإنسان الواعي والمفكر للدنيا والمحيط والحقيقة... فكان هذا الحلم هو الأفق الرحب الذي يتحرك فيه، ويتجاوز الفردانية والذاتية والأنانية إلى أفق جمعي إنساني تحكمه القيم والأخلاق والمواقف الإيجابية.

إن التناول المتميز في أدائه الشعري لهموم الأمة وقضاياها الراهنة يشير بوضوح إلى أنه شاعر حافظ على مستوى الكلمة الشعرية السامي، فأبدع في استحضار إمكانياتها الفنية والجمالية المباشرة واللغة العادية. ومن هنا، نحس أن الشاعر يتعمق في المعجم اللغوي فيختار منه عباراته وكلماته المسعفة والتي يمكنها أن تخدمه في التعبير عن هذه الهموم والقضايا دون السقوط في أي متاهة لغوية أو إبداعية. يقول الشاعر في قصيدة "قوْسُ قُزح يمْشِي علَى الأرْضِ":

قَوْسُ قُزَح ناحِلٌ يَمْشِي علَى الأرْضِ

موْجَةٌ رَقْطاءُ تغْمُرُ الأزْمِنة

قبْلَ ثَمانِيَة آلافِ عَامٍ قبْلَ الميلاَدِ

كنْتَ تسْرَحُ في الأكَمَاتِ والغابَاتِ الخَضْراءِ

الشدِيدَةِ الخُضْرةِ

حتَّى دارَتِ الطبِيعَة دوْرَتَها الكُبْرَى

وضَرَبهَا زِلْزالُ الجَفافِ (ص. 39).

(....)

يظهر من هذا المقطع الشعري أن الشاعر يستحضر لقطة دالة منتزعة من التاريخ الذي تأثر به، التاريخ الذي هو محور الذاكرة، فينتزع منه لقطة مهمة تشكل صورة محددة تجمع بين البعد التاريخي الذي يؤثر عاطفياً في الشاعر، وبين الأثر السياسي والفكري الذي يمكن استنتاجه منه. فعندما يمشي هذا الشخص المتصف "بقوس قزح ناحل" على الأرض، فهو بمثابة موجة عاتية عظيمة رقطاء "تغمر الأزمنة"، وتستمر في التاريخ وفي المستقبل، لأنها شخصية عظيمة تركت بصماتها في تاريخ الأمة عبر خط تاريخي مستمر في الزمن إلى الأبد.

ورغم انقراض سلالته، وسلالة باقي البشر والحيوانات القوية والمفترسة، لم ينقرض هو، ولم يمتْ في العقول وفي الكتب التاريخية، فبقيَ مع الناس إلى اليوم، وسيبقى غداً، وبعد غد. فهو حاضر رغم موته مبكراً في سن العشرين، حاضر في جبال سمحان بظفار في معقله الأخير يتصف بهدوء جلي ومثير:

يا منْ تمُوتُ باكِراً

بعمْرٍ لا يتَجاوَزُ العِشْرينَ عاماً

أيُّ لُغْزٍ في حيَاتِكَ المحَصَّنَة ومَوْتِكَ السَّريعِ

أيُّ جمالٍ لا يُضاهِيهِ جمَالٌ آخَرُ

في جسَدِكَ وفي الأَلْوانِ البَاهِرَة

التِي تطرِّزُ فرَاغَ قفْزَةٍ في الهاوِيَة.

في جِبالِ سَمْحانَ بِظَفار

معْقِلِكَ الأخِيرِ

هادِئاً تُحدِّقُ في المَغِيبِ

تسْتَرِيحُ منْ سفَرِ العُصُورْ. (ص. 40)

ونخلص من هذا المقطع إلى أن الرؤية المحددة والمركزة للأمور تمثل محوراً حول اللحظة الشعرية التي يستطيع من خلالها المتلقي أن يحدد المعنى المناسب في سياق النص الذي يتلقاه. فهو القادر على إعطاء تلك الرؤية المحددة المعنى الملائم لها، فنلمس معه ذلك المعنى المركز والأقرب للنص الشعري...

يقسم الشاعر بعض قصائد الديوان إلى مقاطع محددة تمثل لقطات مركزة حيث "تمثل تمحوراً حول اللحظة الشعرية التي يبني عليها المتلقي امتداداً لا نهائياً للمعنى. وقد تأخذ هذه اللقطة موقعها في داخل القصيدة الطويلة الممتدة"[4] كما فعل في قصيدة "لاجئة من سطوة الهاجرة"، حيث يقول:

هَكذَا عَلَّمنِي الضِّياءُ الكاذِبُ.

أنْ أُبَجِّلَ عتمَةَ المُحيطاتِ المُدْلهِمَّةِ.

+ + +

ماءٌ ونخِيلٌ

ظلاَمٌ خفِيفٌ

أشْباحٌ تجْفُلُ

وسَحرَةٌ بدَأُوا في الطَّيرَانِ

علَى هيْئَةِ حدَأَةٍ أوْ خُفَّاشٍ يتَرَنَّحُ بيْنَ الصُّخُورِِ. (ص. 59).

فكل مقطع (لقطة) رغم استمداده أثره من سياق النص جميعه، فإنه يستطيع أن ينفرد بمعنى محدد مختلف عن المقطع السابق أو اللاحق. فهنا نشعر باللقطة التي تعني التناقض في تبجيل عتمة وظلام المحيطات انطلاقاً من ما يعلمه الضياء الكاذب ويدعيه. بينما اللقطة الثانية تنبئ بتناقض مختلف حيث الماء والنخيل ممتزجاً بالظلام الخفيف، وظهور الأشباح الخائفة المرتبكة، والسحرة الذين يحاولون الطيران يحاكون فيه الحدأة والخفاش المترنح بين الصخور...

ومن هنا نتفق، ومن خلال الملاحظة الممعنة لهذه القصيدة الممتدة، مع الشطي في كون هذه اللقطات ستجد طريقها إلى الانفراد والتميز، وبالتالي تصبح بمثابة لحظة شعرية أو فكرة مختزنة مركزة قادرة على ملامسة وميض الشعرية القادر على الوصول إلى أهدافها في أقل قدر من العبارات والكلمات[5]. فكل لقطة أو مقطع يستطيع الانفراد بمعنىً معين، وملمح ظاهر، ورؤية شعرية محددة، لكن ما يمكننا التأكيد عليه هنا، هو وجود تواصل واتصال دلالي بين هذه اللقطات/ المقاطع لأنها في النهاية أجزاء من قصيدة واحدة.

دلالة الفضاء الشعري:

إن دلالة الفضاء الشعري في ديوان الرحبي تمثل خطوة كبيرة في تقديم رؤيته العميقة للفضاء بشكله المختلف والمتعدد و المتنوع. فقصيدة الفضاءات الشعرية قصيدة تطرح إمكانيات متعددة لتنوع الدلالة، حيث الاعتماد على التركيب المتداخل، والرؤية المنفردة، والموقف المتقدم للأشياء والأمور، فيحضر الماضي والحاضر بأبعادهما المختلفة، حيث الحضور المكثف للمكان من خلال أحداث ووقائع وأشخاص اتخذها الشاعر وسائل مساعدة لتحديد رؤيته للعالم والناس والأحداث في حد ذاتها.

فالفضاء ليس ثابتاً، والمكان ليس شيئاً جامداً، بل هو شيء متحرك ومتغير بحكم تغير الأحداث والوقائع والشخصيات داخله، تغير متبادل، ومتفاعل، مؤثر ومتأثر، حيث يأخذ أشكالاً متعددة، وملامح مختلفة، فتظهر نتائج تغيره وتحركه من خلال تفاعله مع باقي الأمكنة ضمن زمن محدد. يقول الشاعر في قصيدة "حيثُ السحرةُ يُنادُونَ بعْضهمْ بأسْماءٍ مسْتعارَةٍ":

هدَأَتْ جوَارِحِي في اتِّساعِ المكَانِ

كانَتِ الأرْضُ الضَّيِّقةُ

وكانَ نحِيبُ الرَّاحلِينَ

فهَشَّمتُ أعْضائِي بيْنَ مُدُنٍ شتَّى

ورأَيْتُ الزَّلازِلَ تحْتَ قدَمَيَّ

دوْخةَ أرْضٍ ونشْوةَ سَماءٍ

غُدرَاناً تحْتلُّها عصَافِيرُ

ومَلائِكُ ترْتَطِمُ بسَقْفِ البَسِيطةِ

حتَّى يخَالُها الرَّائِي، طُيُوراً كسِيحَةً

تنْقُرُ فَضَلاتِ البَشَرِ. (ص. 78).

تستدعي القصيدة الكثير من الأفضية والأمكنة، فتستحضر الأرض مع مجالاتها المختلفة مثل: الغدران، والمنازل، والسقوف، والجبال، والصحاري، والغابات، والبراري الوحشية، والوديان، والديار، والقرى، والبحار، والمرابض، والشعاب، والقبائل، والسهول، والبيوت، والمآذن، والجزر، والقبور، والهضاب، والسلال، والأسرَّة، وغرفة النوم، والحانات،...... وغيرها. وتستحضر أيضاً السماء بكل مجالاتها مثل: السماء، والنجوم، والكواكب،... وغيرها. وتتوحد هذه الفضاءات فتتجاورُ لتساهم في توضيح الدلالات، وتستكمل البعد الرمزي للفضاء الشعري في مداه العام الذي يتكئ على التحديدات الجمالية داخل القصيدة.

وهكذا يتداخل الفضاء الشعري مع كل تجلياته المتعددة لينقل المتلقي إلى لحظة قوية بدلالاتها وصورها الشعرية، حيث ينفجر الإبداع الشعري وتظهر المواقف الفكرية والثقافية فيه بامتياز وتفرد:

الجِبالُ الجِبالُ

مفَازَاتٌ منَ السَّرابِ والظِّلِّ

تنْحدِرُ على سفُوحِها الذِّئابُ وبَناتُ آوَى

في المَسَاءاتِ الكَبيرَةِ للقُرَى وللغَزَواتِ

ويَنحدِرُ علَى ثُغُورِها صَلِيلُ الحَدِيدْ. (ص. 80).

من خلال هذه الصفحات القليلة، نخلص إلى أن الشاعر العربي الكبير سيف الرحبي يعرف أشد المعرفة أن الشعر ليس مجرد ناي يعزف عليه موسيقى عشوائية، بل هو تشكيل فني أدبي ولغوي يتغلغل داخل عقله وفكره، حيث التفكير في رؤى وعوالم متعددة وواسعة المساحة والأفكار، من خلال تأملات في الحياة والناس والقضايا والأحداث، فتكون القصيدة ملجأً لتقنين هذه الرؤى والأفكار اعتماداً على مقومات جمالية وفنية وإبداعية محددة.

قم بتسجيل الدخول لكي تتمكن من رؤية المصادر
هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة لاناس.