صدقية الحزن والتباكي على القصيدة عند الشاعر عزيز محمد بنسعد
بقلم: عزيز العرباوي: كاتب وناقد
- استهلال لا بد منه:
يعتبر الزجل من الفنون السبعة التي خرجت عن بناء عمود الشعر ولم تعتمد وحدة القافية والوزن، وهذه الفنون هي الموشح وشعر القريض ويعتمدان الفصحى، ثم الموالِيا والدوبيت العامية أو الفصحى، أما الزجل والكان كانْ والقومَا فيعتمد فيهم العامية.
ويرى مجدي شمس الدين في هذا الصدد أن: "الزجل منظومة غنائية أندلسية وضعت أساساً لتلحن وتغنى، ولا تسير في موسيقاها حسب الوزن والقافية التقليديين، وإنما تتبع نظاماً جديداً متحرراً نوعاً ما بحيث يتغير الوزن وتتعدد القافية، مع التزام بالتقابل في الأجزاء المتماثلة وتُصاغ بالعامية".
إن البناء الفني للزجل يشبه إلى حدٍّ كبير نظيره في الموشح، بحيث تتكون القصيدة من عدة مقطوعات، فتسمى المقطوعة بيتاً، وتتكون كل مقطوعة من غصن وقفل (أو أكثر بقافية مغايرة لقافية الغصن)، مع إمكانية تغير الوزن من مقطوعة إلى أخرى، "وهذا الشكل الفني هو الذي يحدد هوية الزجل باعتباره نظاماً غنائياً شعرياً يصاغ بالعامية، وهو فن جماهيري عريق وموجه يحمل رسالة وغرض اجتماعي أو تربوي أو غيره، ويعتمد بشكل أساسي على التبكيت والتنكيت والمفردات اللغوية الرشيقة والصور الفنية البسيطة؛ ليتواصل مع الجماهير دون صعوبة، ولا يختلف في شكله فقط، بل وفي تعامله مع اللغة وأهدافه عن قصيدة العامية التي تُعدُّ رافداً من روافد حركة التجديد الشعري التي تبلورت في خمسينيات القرن العشرين".
ويرى الكاتب المغربي حميد المصباحي: أن الزجل المغربي يتميز بإيقاعات خاصة، تختلف حسب المناطق، بحيث إن هذا التميز يرجع إلى تعدد التقاليد الشعبية في الغناء، تأخذ في بعض الحالات من اللغة الفصيحة وتكيفها مع العالم القروي. ويؤكد المصباحي على أن "الزجال يحدد وقع كلماته وترابطاتها الشاوية أو العبدية أو الدكالية أو الجبلية أو الحسانية، بما يمكن نعته بإيقاعات الجذبة، أو الحال، وهي حالات لا تتحقق إلا باستحضار التراث الشفاهي المغنى وفق إيقاعات محددة، رغم أن التجربة الكناوية هي ما لاقت انتشاراً واسعاً؛بحكم ارتباطاتها بالعبودية وتعبيرها عنها رفضاً ودفاعاً عن الحق المتطاول عليه بناء على تصنيفات اللون والجنس، مما ولَّد آليات لها تاريخها في الهروب من القهر والرغبة في التحرر".
ويرى المبدع الشاعر الزجال أحمد لمسيح في تحدديه للزجل: أن أصله يعود في المغرب إلى ميلاده الأصلي في الفضاء الذي ظهر فيه، حيث يقول لمسيح: "ولهذا يكون الزجل احتفظ له في المغرب باسم ميلاده الأصلي الذي منح له في الفضاء الذي خلق فيه قبل أن يسافر عبر الأقطار ويتلون ببيئاته الجديدة ويتنوع بالتسميات المحلية، فيطلق على أشعار ابن قزمان والزرهوني وعبد الرحمان المجذوب والشيخ الحراق والعلج والحداني والمسناوي والقادري والراشق ونهاد بنعكيدة... حيث يشمل أنواع الزجل كما هو متداول في المشرق جنباً إلى جنب إلى ما ينتمي إلى فضاء ما كتبه -أو يتجاوزه تجريبياً وحداثياً- أمثال الشعراء بيرم التونسي والأبنودي وجاهين، ونجم والنواب وحيدر وعقل وجورج والحاج وسيد حجاب ونجيت وومان ورابح صالح وغيرهم الكثير... ".
ولقد أبدع في الزجل المغربي في القديم العديد من الشعراء الزجالين الذين لهم علاقة بالحرف والصناعات التقليدية، كما أبدع فيه الفلاحون والمتعلمون بمختلف مستوياتهم التعليمية والعلمية، فكانت لأشعارهم ودواوينهم مساهمة فعالة في إغناء الشعر المغربي بنوعيه العامي والفصيح، وفي تبويئه المكانة اللائقة به في الأدب المغربي عامة.
وبعد هذه التوطئة التي قادتنا إلى التعريف بالزجل المغربي وتحديد أسسه ومحدداته الشكلية والموضوعية واللغوية، فإننا سنحاول في الجزء الثاني من هذا البحث مقاربة أبدعوا في هذا المجال، ديوان المغربي المتميز عزيز محمد بنسعد الذي يحمل عنوان "الطَّنْز العَكْرِي".
إن الشاعر غالباً ما تقوده الكتابة الشعرية نحو الحكمة، فيعيش القلق، والهموم، والمعاناة التي تساهم مساهمة فعالة في خدمة القصيدة حتى تخرج إلى الوجود مفعمة بالمعاني الصادقة والراقية، وبالجماليات الفنية التي تحقق اللذة عند قارئها.
إن القلق هو أول بوابة إلى عالم الشعر، فالشاعر الذي يعيشه لا يحتاج إلى محفز آخر لكي يبدع ويقول شعراً؛ لأنه الكفيل بإخراج ما في مشاعره من أحاسيس على شكل حروف وكلمات وعبارات، تتشكل هندسياً وأسلوبياً ولغوياً لتكوِّن قصائد شعرية جميلة ومميزة.
إنه مفتاح الدخول إلى العالم الخاص الذي يجيب عن أسئلة وإشكالات تتردد في روح الشاعر، فتلحظ العين عبارات بصرية تتسم بالجمال والرقة، أو غيرهما، لتنسج المخيلة عوالم سعيدة وحزينة في آنٍ واحد.
إن الكتابة الشعرية بالعامية تثري الأدب عامة، وتعتبر رافداً مهماً من روافد تجديده وتنوعه. فاللغة العامية هي أقرب إلى الفئات الكثيرة من المجتمع بحكم سهولة انتشارها وتداولها بين القراء والمتلقين بكل ألوانهم وثقافاتهم، فالزجل يساعد الشاعر عامة على الاتصال بالذاكرة الشعبية وبالهموم الاجتماعية، فيشعر المتلقي أنه في علاقة حميمة تربطه بقصيدة الشاعر الذي يتجلى دوره في التواصل والانفتاح والتجذير والتأصيل.
- صدقية الحزن:
يمكننا اعتبار ديوان "الطَّنْز العَكْرِي" ديواناً زجلياًّ يغري بالتوغل بعيداً بين متونه وكلماته البهية، ومع شاعر يبحث بعيداً ليحضن جمالية الكلمة وكثافة الصورة الموحية، مستفيداً في ذلك من تكوينه الثقافي والفكري، لغته تحفر عميقاً في الموروث اللغوي والقيمي الجميل، فتمنح بذلك للكتابة جدواها وللزجل رسالته. فالشاعر عزيز محمد بنسعد شاعر مبدع تكشف قصائده عن هموم واضحة المعالم، انطلاقاً من عنوان ديوانه الذي يحمل مجازياً العديد من الأفكار والمقولات التي تدخل ضمن ما يسمى الرمز، والتعبير عن ما يختلج قلب الشاعر من هموم وأحزان يحاول إخراجها من داخل ذاته مستخدماً قصائد جميلة يفوح منها القلق ويتجلى فيها البوح بكل تجلياته الجمالية والفنية.
يسقط الحزن في الديوان معلناً عن حقيقة مشاعر الشاعر، حيث التحسر على واقع الكتابة الشعرية الزجلية التي أصبحت مباحة للجميع، وأصبحت القصيدة مستباحة من طرف الكل دون خجل أو حياء. وكأنها مطية سهلة وميسرة لكل من يستطيع القول باللغة الزجلية فينمقها ويجملها بأسلوب خاص، وبشكل يظهر على مستوى الشكل أنها قصيدة شعرية زجلية، لكن..
هيهات أن يكون كل كلام موزون أو موقَّع بموسيقى خاصة شعراً حقيقياً. واهم من يظن أن حصان الشعر سهل الترويض والركوب.
يقول الشاعر:
طاحْ المعْنى فْ مْصيدة
وانا اللّي كنْتْ قْنِيتْ حْروفْ
عيْني فْ مَلْكَى لَقْصيدة
تروفْ... تسْخى...
وْتزْحفْ حْزامْها مكْروفْ
ويْلا ظهْرتْ المعْنى
يا فقِيهْ المعْنى
الباقي فْ وْراقِي معروْفْ.
يحزن الشاعر بنسعد في أغلب قصائد هذا الديوان لحال الزجل وحتى الشعر الفصيح، حيث مظاهر الاستسهال والتبسيط والتحقير للغة الزجل عند العديدين من شعراء اليوم، الذين يحلون ضيوفاً على الزجل عندما يصعب عليهم أمر مراودة الشعر الفصيح. وبالتالي يعتقدون أن الزجل هو المطية السهلة التي من خلالها يمكنهم أن يدخلوا غمار الإبداع الشعري وتحقيق الشهرة المرغوبة. إنهم جاهلون بالإبداع وغير مدركين لخطورة عملهم الذي قد ينتج رداءة شعرية، وفي النهاية ثقافة محتقرة وأدباً مرفوضاً من القارئ.
تأخذ الكتابة الشعرية عموماً طابعها من ذات الشاعر وشخصيته وميوله ونزعاته وتجاربه الخاصة. وهنا يواجه الشاعر في ديوانه الإبداع بقلق واضح، فيصل إلى الشعر الجميل والقوي وهو يشعر بتعب واضح وجهد دؤوب؛ لأنه يحاول أن يبحث في لغته الشعرية عن العبارات والكلمات التي تسعفه في البوح عن مواقفه وأفكاره ومذهبه في الشعر والإبداع والكتابة.
نرى في نصوص الشاعر أنها تتموقع في مجال معين، وتبحث عن مواقع واسعة للخروج من مآزق الهموم والقلق. ففيها يحاول الشاعر أن يظهر أدوات فكرية تتحدد في أبعاد إنسانية وثقافية واجتماعية متعددة، فيستثمر في ذلك الموقف الفكري والسياسي والأدبي من أجل البحث عن بصيص أمل؛ للخروج من واقع القصيدة الزجلية المعاصرة في المغرب.
يقول الشاعر:
"الكلْمة اللِي ما تْحرَّكْشْ فينا لَبْلايَصْ البارِيّة فينا عْلَى سهوة... اشْربْ قهْوة كحْلة احْسن...
عْصُرْ فيها حامضة يطِيرْ منَكْ الثْمَنْ وتْفِيقْ... احْسنْ ما تْصَنَّطْ لواحدْ مْسَنْ...
عْطيهْ وُدْنكْ... واشْبعْ فِيهْ عَ تْصَرْفيق"
جايْ تقْرا عليَّ...
جايْ تقْرا عليَّ...
أنا بنْتْ ليكْ مْشَيَّرْ...
ههههههههههههههه.
نسجل في الديوان ككل بروز ثنائية اليأس والأمل، الخوف والسلام، الخير والشر... حيث يحاول الشاعر عزيز محمد بنسعد أن يبرز حالات فكرية ونفسية وشعورية متعددة في تناوله لهذه الثنائيات، وهذا يتجسد في معظم قصائد الديوان، والذي يظهر من خلالها صراع كبير وواسع الآفاق بين اليأس والأمل في الحياة وفي الناس، وخاصة في الشعراء الذين يريدون اقتحام عالم القصيدة واحتكارها.
- التباكي على القصيدة:
إن بكاء الشاعر والذي يحمل دلالة مختلفة عن أي بكاء آخر يمكننا أن نفهمه في لغته وسياقه، إنه يمثل الظلم والإجرام والإذلال والنفاق في حق القصيدة الشعرية، فكل اعتداء وتدخل في القصيدة يمكنه أن يؤدي إلى إضعافها والتقليل من شأنها، بل وتمييعها ينتج في النهاية ثقافة ضعيفة ومتخلفة. لكن المبدع الذي يندفع إلى الكتابة الزجلية دون أن يجدد في لغته وفي مواضيعه وأفكاره غالباً ما يقدم نفسه مظلوماً وضحية، لأنه يشعر بسهام النقد موجهة له فيعمل على مهاجمة النقاد والقراء بكل الوسائل حتى يمنعهم من مهاجمته أولاً، وهذا ما يصدق على بعض الشعراء والزجالين الجدد الذين استسهلوا القصيدة فلم يبدعوا إلا شعراً ضعيفاً ورديئاً.
ومن المؤكد أن صورة القلق ومشاعر الهموم بكل تجلياتها المحزنة متجذرة في ذاكرة الشاعر محمد عزيز بنسعد حتى بدأ يشعر بالخوف على الشعر والزجل، بل أصبح يعاني نفسياً واجتماعياً وثقافياً نظراً لتكاثر هذه الأصوات الزجلية الجديدة، وانتشارها الواسع في الساحة، فنصوص بنسعد في ديوانه هذا تعرض هذه الصور على أنها دلالات حقيقية وغير تجريدية، وعلى أنها واقعة في الزمان وعلى الذات والآخر، فهي تمثل علاقة تضايف تربطها بالذات وبالتفكير والمشاعر الداخلية عندها.
تتداخل الهموم في نفسه، فتبلغ معها الرمزية والإيحائية إلى أقصى مداها الذي يمكن لها أن تصله.
يقول في قصيدة "وجَعْ الدّْوايَة":
تْوجعتْ الدوايَة ْحروف
وْفَقْست
فِي حْجَرْ بْياضْ الورْقَة سطورْ
دَّاعاتْ مْعايَا بكْفُوفْ
وُنعْستْ
فِي مْلايَةْ الرُّوحْ فايْحَة بْعْطورْ.
الكلْمة من دمِّي
والغَوْتَة بَنْتْ فُمّي
وقْتَلنِي السْكَاتْ عْلِيهاَ.
وبعد أن يصبح الهم والقلق ضيفاً دائماً عليه وعلى مشاعره الجمعية، يتوغل في نفسه ويتشيأ بذاته وبشخصيته المرهفة الحس، فيصبح مثل الصديق الوفي والحبيب القريب إلى قلبه.
يشكل القلق على القصيدة في نصوص الديوان رمزاً معيناً يساهم في تقويتها وتشكيلها الدلالي. فهو في تداخله باللغة الشعرية يتجلى كبعد إيحائي يقود إلى تشكيل دلالة مختلفة عن الفهم العادي للكلام.
تقول الشاعرة في قصيدة "الشرْجمْ الثَانِي":
طلِّيتْ منُّو وبَكَّانِي
منْ قلَّةْ الزّْهرْ
كنتْ أنا وْيَّاهُمْ فْ لْبحَرْ
كانَتْ الشّْتَا وكانْ السّْمرْ
ومللِّي وْصلْناَ للنُّصّْ فْ لبْحَرْ
شَرْبُوا لَكْوَّرْ المَا لَحْلُو كُلُّه
وْكَالُوا ليَّا:
الصّْبَرْ آكُويُو الصّْبَرْ
حْتى نْوصلُوا لْدَاك البَرّْ.
يتشكل الهم والقلق في ديوان عزيز بنسعد، ويؤكد قوته وقدرته الكبيرة على التأثير في ذات الشاعرة حتى ليصبح شقيقاً لها يلاعبها ويلاطفها ويتوغل في أحاسيسها، مما يدفع بها إلى إبداع نصوص زجلية جميلة تغري بالقراءة والتعرف على تجربة شاعرة اختارت اللغة العامية كوسيلة للكتابة الشعرية، وتوسلت بها القارئ ليشاركها هذا القلق الإنساني وهذه الهموم الشخصية والإنسانية في تجليها القومي والوطني والذاتي.