من الشعر إلى الفكر
بقلم:عزيز العرباوي
يرى محمد عزام أن المتوقع من القصيدة أن تغير من موقفها إزاء أشياء العالم، أو تثبت موقفاً. أو تعدل منه، لخلق نوع من الانسجام في الموقف الجماعي بطريقة غير مباشرة، ولا يتحقق الانسجام بين الجماعة والحياة إلا من خلال الموقف أو القصيدة المشتركة، ولا يتحقق أيضاً بين الجماعة والشاعر إلا من خلال استيعاب الشاعر لهذه الحقيقة، ومحاولته تصفية كل ما قد يكون فيها من تناقض من خلال الإطار الأسلوبي المنسجم. فالتزام الشاعر بموقف فكري لا يضير الشعر ذاته في شيء، أو يناقض طبيعته. بل هو على العكس يضمن له الفعالية والأهلية، ويحقق للشاعر الوصف القديم بأنه خادم قومه وابنهم البار الذي لا يمكنه أن يخرج عن الطاعة والولاء[1].
وبذلك، فإننا نجد أن الشعراء قد سموا إلى آفاق فكرية سامية فحظيَ كل منهم باهتمام المفكرين والفلاسفة ومتابعتهم.
وتقارب الشعر والفكر إنما هو نتيجة حرص الإنسان على الرجوع إلى التجربة البشرية الحية بما فيها من عمق وواقعية وثراء.
فالإنسان لم يعد في نظر فلاسفة العصر حقيقة منقسمة، وإنما هو نسيج بشري لا يقبل التفريق، وكل فكرة لابد أن تصبح شعراً، وكل شعر يمكن أن يصبح فكرة شعرية. فالاتجاه الرومانسي مثلاً حاول الجمع بين الشعر والفكر ببعث روح الدهشة والغرابة في نفس الإنسان حين غربت المألوف، وألفت الغريب، من خلال المبدأ الذي يعتبر الشاعر نبياً، ومفكراً يحمل إلى المتلقين الحقيقة الصائبة الكامنة في قلب الوجود والكون[2].
ولقد جاء شعراؤنا العرب بالشعر وجددوا في بنية القصيدة العربية بكل ألوانها. وقد كان ذلك التجديد في المضمون والشكل معاً، في أوزان الشعر وقوافيه، وفي صوره ومعانيه، محاولين أن يلائموا بين حضارتهم وشعرهم. ونشير هنا إلى أن شعراء المغرب العربي مثلاً، قد تلاعبوا بأوزان الشعر وقوافيه، فكانت الموشحات، ذلك أن الشعر ما هو إلا صدىً لعواطف القلب، وأهواء النفس، وهو كما يقول أبو تمام: صوت العقل، ولكن الأصل في الفن الحرية والصدق، الحرية في التعبير، والصدق في التجربة، وبعدها لا ضير على الوزن والقافية في الشعر، وقد قال طه حسين: "حرية في التعبير وطرائقه وما يبتكر فيه من الصور والمعاني وقيود يفرضها صاحب الفن على نفسه في مذاهب الأداء يلتزمها وهو لا يلزمه إياها أحد غيره، وقد عرفت الإنسانية شعراً خالداً ولم يعرف القافية لأنها لم تلائم طبعه ولا لغته ولا بيئته[3].
إن طريقة التعبير هي علامة الإبداع الأولى المتميزة، وبحدتها يكون الشاعر جديداً ومجدداَ، وجدتها تكمن في كون تجربة الشاعر ومواقفه ورؤاه الشعرية جديدة .إن الشاعر الذي يعتبر الشكل حالة خاصة من اللانهاية فهو يعتبره تجدداً لا يتناهى، لأن الإبداع خلق وبحث لا ينتهي، والحياة حركة لا تتناهى .
فبجمود الشكل في المجتمع تجمد الحياة ويجمد الفكر معها. فالشاعر الذي بهذا الجمود هو شاعر يريد إقبار نفسه وتجربته الشعرية وفكره الشخصي أيضاً.
فالشعر الجديد باعتباره نظرة في الآفاق الفكرية ورؤيا جديدة، هو غامض من ناحية المضمون، بل هو متردد، وغير منطقي، فهو في حاجة إلى المزيد من الحرية، والانطلاق، والمزيد من مساحة التعبير الحر، لأن الشكل يختفي أمام الهدف الأسمى من الشعر. فبناء الشعر لابد له أن يكون قابلاً للتجدد والتغير والتحول حسب الموقف والرؤية الفكرية عند الشاعر[4].
والقصيدة الجديدة تعتمد على الفرادة والخصوصية، وتتمثل في الوحدة العضوية بشكل تجريدي، لأن فصل هذه الوحدة عن القصيدة تصبح وهماً، ولذلك يجب النظر إلى الشكل والمضمون معاً دون تفصيل، ولذلك فالقصيدة هي لغة غير منفصلة عما تقوله، والمضمون ليس منفصلاً عن الكلمات التي تفصح عنه، ذلك أن الشكل والمضمون وحدة في كل أثر شعري حقيقي[5].
وما يمكن أن نصف به الشعر الجديد، حسب محمد عزام، هو أنه يعبر عن رؤية ما، هذه الرؤية تجد مجالها الحقيقي في الأعماق الداخلية للشاعر، والعالم الخارجي، مستعملاً في ذلك الحدس والبصر، بحيث يعبر عن القضايا والأحداث والوقائع بطريقة مختلفة، ويراها بمنظار غير منظار الآخرين، من خلال تحطيم الحاجز العصبي بين العقل والمادة، وتحويل الطبيعة إلى فكر، والفكر إلى طبيعة. فالحداثة تنبني على الثورة الحضارية المعاصرة في تنوعاتها ثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً... فرؤية الشاعر الحداثي هي المحتوى الثقافي والسياسي والاجتماعي والفكري في عمله الشعري، إضافة إلى التجربة الإنسانية التي يعانيها وتسم تكوينه الاجتماعي والنفسي والفني.
فالشعر في قصيدة النثر مثلاً، سحر وبهجة وتساؤل حول القضايا الحساسة. لأنه اتجاه نحو الممكن وثورة دائمة ضد الثبات والمألوف، بحيث نجد أن الممكن في المستقبل لا الماضي، فالشاعر يكتب ويشعر متأثراً بهاجس المستقبل، والاستباق والتحول... وفهم المعاني الجديدة في الشعر يتجلى في الأشياء والأشكال والألوان، وعلاقتها بالإنسان وتجاربه الفكرية والحياتية.
لأن إنشاء هذا النوع من الشعر في وسط عربي ثقافي تقليدي يتطلب بل يفترض جرأة كبيرة وأصالة وعناداً لا يُقاس مطلقاً، كل هذا ساعد شاعر القصيدة النثرية على بلورة تجربته وإنضاجها مبكراً...