تجديد الفكر العربي الإسلامي ومستقبل الإسلام:
بقلم: عزيز العرباوي: كاتب وباحث من المغرب
ملخص: يمكن اعتبار الحديث عن الفكر الإسلامي عموماً وتجديده يتحدد من خلال الحديث عن قضايا العصر التي باتت تفرض نفسها بشكل واضح، وخاصة في ضوء التغيرات والتحولات العالمية المتسارعة، فأصبح من اللازم الخروج من حالة الجمود والانغلاق والانعزالية التي ميزت الخطاب الديني، نحو الانفتاح والإبداع، ليتماشى مع عوامل الزمان والمكان، ويتمكن من مواجهة قضايا وهموم الأفراد و المجتمعات، وتعزيز القيم الإنسانية ما يسهم في التنمية في مختلف تجلياتها.
ويبقى مفهوم تجديد الفكر الديني الإسلامي، عملاً وبرنامجاً شاملاً ومتكاملاً، يخضع لأهداف واستراتيجيات وخطط وأساليب ومتطلبات مادية وبشرية، وليس عملا ارتجاليا تسوده العشوائية والاعتباطية. وما دامت الأديان تشكل مكونا أساسيا من مكونات هوية الأفراد والمجتمعات، فإن الخطاب الديني له تأثير جلي في توجيه أفكار وسلوكيات ووجدان الفرد داخل الجماعة. وهكذا، فالفرد والمجتمع معنيان بالتجديد والتغيير والإبداع، لما في ذلك من تطور وتقدم وازدهار، إلا أن هذا الأمر يحتاج إلى فهم دقيق للواقع والتعرف على سلبياته ونقائصه ومحاولة تداركها وعلاجها. وبالتالي فإن الخطاب الديني وتجديده، لا يكون في ثوابت وأصول ومقاصد الدين و العقيدة، وإنما في تطوير لغته ومضمون الرسالة التي يحملها من خلال استثمار كل ما هو جديد لمواكبة تحديات العصر، آخذين بعين الاعتبار منتج هذا النوع من الخطابات ومدى تمكنه من آليات التواصل الحديثة، والمتلقي ومدى استعداده وقابليته لاستقبال رسالة دينية غايتها الارتقاء بشخصيته وتعزيز سلوكياته الصحيحة، دون إغفال وسائل الاتصال المتنوعة والتكنولوجيا المعاصرة وأهميتها في هاته الوضعيات التواصلية.
إن التجديد في الفكر الإسلامي يتطلب استحضار الكثير من الأمور بما فيها الدينية والدنيوية من أجل إخراجه إلى حيز الوجود. وتبقى المحاولات التي تقوم بها بعض الجماعات والحركات والأحزاب في عالمنا الإسلامي والعربي محتشمة، بل ومتقوقعة في المحلية والجهوية، الأمر الذي يدفع العديد من الحركات المتطرفة التي تدعو إلى السلفية العمياء والتقليدية والرجعية في الدين إلى استغلال هذا الوضع المحتشم من قبل الحركات والأحزاب المجددة، فتوغل بقضها وقضيضها داخل المجتمعات العربية والإسلامية والتي تعتبر بدورها ناقصة التكوين والمعرفة في الفكر الإسلامي، سهلة المنال أمام هذه التطرفات، لتعمل على اجتذابها وإقناعها بالمشروع التقليدي البعيد عن التجديد في الدين والموغل في الوحشية والتزمت. ويبقى السؤال المهم هو، ما هي السبل التي نتخذها من أجل شق طريق التجديد في ظل المتغيرات والظروف المزرية التي يعيشها عالمنا؟ هذا ما سنحاول التطرق إليه خلال هذه المداخلة البسيطة، آملين في الإحاطة ببعض جوانب النقص في تجديد الفكر الديني[1].
اولا: تجديد الفكر الإسلامي ومنطلقاته الفكرية:
التجديد لغة واصطلاحاً:
لغة: مأخوذ من الجديد والذي يعني نقيض القديم، وجدَّد الشيء حوَّل قديمه جديدا، والظاهر من المعنى اللغوي أن تجديد الشيء هو إصلاحه وإعادته حالته الأولى التي كان موجوداً عليها، ومن ذلك قوله تعالى: {أئنا لفي خلق جديد} (السجدة: 10)، أي أن الكافر يستنكر أن يعيده الله إلى هيئة خلقه التي كان عليها في حياته. وقد جاء في لسان العرب: "الجدّة هي نقيض البلى، ويقال شيء جديد، وتجدد الشيء صار جديداً وهو نقيض الخلق، وجدّ الثوب يجِدُّ (بالكسر) صار جديداً، والجديد ما لا عهد لك به[2]".
ويرى سيف الدين عبد الفتاح[3] أن مفهوم التجديد من أكثر المفاهيم التي تنازعتها التيارات الثقافية والفكرية المختلفة، وقد انعكس هذا التنازع على المفهوم ذاته من حيث معناه ودلالاته، وواقعياً يصل الباحثون لمُسلَّمة هي أن التجديد- على المستوى النظامي والحركي- قد تُخفق أهم جهوده نظرًا لعدم وضوح التأصيل الفكري والمنهجي لعملية التجديد في تأكيد واضح على أهمية الربط بين النظرية والفاعلية في مجال التجديد الحضاري.
والتجديد في اللغة العربية من أصل الفعل "تجدد" أي صار جديداً، جدده أي صيّره جديداً وكذلك أجدّه واستجده، وكذلك سُمِّي كل شيء لم تأت عليه الأيام جديداً، ومن خلال هذه المعاني اللغوية يمكن القول: إن التجديد في الأصل معناه اللغوي يبعث في الذهن تصورًا تجتمع فيه ثلاثة معانٍ متصلة:
أ- أن الشيء المجدد قد كان في أول الأمر موجوداً وقائماً وللناس به عهد.
ب- أن هذا الشيء أتت عليه الأيام فأصابه البلى وصار قديماً.
جـ- أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى ويخلق.
ولقد استخدمت كلمة جديد- وليس لفظ التجديد- في القرآن الكريم بمعنى البعث والإحياء والإعادة- غالبًا للخلق-، وكذلك أشارت السنة النبوية لمفهوم التجديد من خلال المعاني السابقة المتصلة: الخلق- الضعف أو الموت-الإعادة والإحياء. ويعتبر حديث التجديد [عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها" رواه أبو داود]: من أهم الإشارات إلى مفهوم التجديد في السنة النبوية، وقد تعلقت بهذا الحديث مجموعة من الأفكار.
اصطلاحاً: ننظر إلى معنى التجديد من خلال الحديث النبوي الشريف: {إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها}[4]. حيث نقف على أهم معالم معنى التجديد شرعاً، ومنها:
- إن التجدد لا يكون في جانب واحد من الجوانب، إنما شامل لقول الرسول (ص) "دينها".
- العمل على امتلاك فقه النص وإمكانية التعامل مع تعاليم الكتاب والسنة، وإيجاد الحلول الشرعية لمشاكل الناس والمجتمع.
- محاولة إزالة كل ما لحق بالدين مما ليس منه كالبدع والخرافات.
- العمل على التفريق بين الوحي المنزل والشرع المقنن، وبين الأدوات و الطرق وبين الغايات والقوانين الدينية.
- إن التجديد يرتبط بشخص واحد أو بجماعة معينة أو بمجموعة من العلماء لهم باع طويل في ذلك.
ويؤكد الباحث صبري محمد خليل[5] أن التجديد يقع بين النظر والتطبيق من خلال قسمين محددين هما قسم نظري وقسم عملي، أما الأول فيتحدد مجاله في فروع الدين النظرية، وهو الاجتهاد أي وضع الحلول النظرية للمشاكل التي يطرحها واقع معين زماناً ومكاناً، مقيدا بالقواعد المطلقة، التي مصدرها الوحي، والتي تحدد نمط الفكر اللازم لوضع هذه الحلول. وقد ميز العلماء بين المجتهد المقيد والمجتهد المطلق، والفارق بينهما هو فارق في الشمول بين التجديد في فرع واحد من فروع الدين، أو أكثر من فرع، والمجتهد المطلق هو المجدد. وأما الثاني فيتحدد مجاله في فروع الدين العملية، وهو تنفيذ الحلول السابقة في الواقع بالعمل ، مقيدا بالقواعد المطلقة، التي مصدرها الوحي، والتي تحدد أسلوب العمل اللازم لتنفيذ هذه الحلول.
ثانيا: تجديد الفكر الإسلامي ودوافعه:
ينطلق التجديد في الفكر الديني الإسلامي بالضرورة، من افتراض الابتعاد عن التحريف والتغيير لتعاليم الإسلام وشرائعه. إنه يعني إعادة الأمة الإسلامية إلى الدين الحق والعقيدة الصحيحة، باعتبارها قابلة للتعاطي والتعامل مع الحياة البشرية في كل الأزمنة و الأمكنة، من خلال قواعد الدين العامة والخاصة، ومن خلال قدرتها إكساب المسلم مرونة في استيعاب المستجدات والتعامل معها وفق القوانين والضوابط الاجتهادية الممكنة. فأهمية هذا التجديد وضرورته الحتمية تبرز من خلال الاستمرار في القدرة على التأثير في المجتمعات والأمم الأخرى في عصر يعرف العديد من الصراعات والقلاقل والحروب بين هذه الأمم. وبالتالي فالتجديد في الخطاب الديني يتطلب من المجدد التحلي بمرونة في التأويل وإدراك المعارف والأفكار والتطورات الإنسانية من أجل جعل الخطاب الديني الإسلامي خطابا مقبولا وسهل التجدد والتغير في سيرورة الزمن والأحداث.
إن دوافع تجديد الفكر الديني هي دوافع موضوعية بالضرورة، لأننا نؤمن بأن هناك رغبة في التجدد دائماً لمعرفتنا للحياة والكون والمحيط، ومدى تأثير ذلك فينا وعلينا وعلى مفهومنا وتصورنا لهذا الكون والحياة، مما ينعكس بالضرورة على عقليتنا وعلاقاتنا الإنسانية تجاه هذا التجديد. فمسألة التجديد مطروحة في كل زمان ومكان، لأنه مرتبط بعودة الدين والتدين وعلاقتنا بالدين. حيث تشير الحياة الراهنة، في ظل الانفتاح والعولمة، إلى العديد من الإشكالات المتزايدة والمتنوعة، والتي تتطلب تجديدا للخطاب الديني تحقيقا لأهدافه المنشودة، ولعل أبرزها:
- إن التجديد في حد ذاته شرط أساسي لأصالة الإيمان وبقائه واستمراره في الزمن. وما الدعوة إلى تجديد الخطاب الإسلامي إلا إصلاح لأسلوب الفكر الديني الرائج في المجتمع، والذي يتميز في مخاطبته للفرد بكونه خطاباً إنشائياً تقليدياً جامداً يركز على جانب ويهمل جوانب أخرى مختلفة من حياة المسلم التي تتجدد وتتطور باستمرار ولا يمكن للخطاب الإسلامي أن يبقى رهين التفكير السائد أو حتى السابق المرتبط بخطاب السلف. وفي ذلك يقول حسن الترابي: "فالإحياء واجب تدين موصول، إذ لا يكاد يتحول ظرف أو يجري زمن إلا انطوى على ابتلاء للإيمان يستوجب تجديده إزاء الموقف الجديد. فإذا تمادى المرء في الجمود تجاه حركة الابتلاء ولم يستدرك من قريب، أوشك أن يتخلف فتطبق عليه الغفلة وتتعسر الإنابة من بُعْد الشقة، وتجديد مواقف الإيمان إزاء كل طور جديد في سير الحياة، هو المقصود من وصايا القرآن. للمؤمنين أن يؤمنوا، وللمتقين أن يتقوا، إيماناً بعد إيمان وتقوى بعد تقوى، حتى لا يغتر امرؤ بموقف إيمان سالف عن موقف إيمان متجدد. ولا بتقوى تحققت عن تقوى يلزم أن تتحقق..."[6].
- إن معظم الدعاة يقفون عند ظواهر النصوص من دون محاولة منهم للتفكير والتدبر والتأمل فيها والتعرف على مقاصدها وأهدافها الحقيقية، التي تفيد في إيجاد حلول ناجعة لمشكلات الإنسان اليومية وتطلعات المجتمع، وبالتالي لا يجد الخطاب سبيلاً للتواصل بنجاح مع الأفراد. فالدعوة إلى مواكبتهم لابتلاءات الإيمان والعلم والعمل، يجعل من الدين قادراً على موالاة الجديد والتطور، فالشريعة لم تأتِ بتقريرات مطلقة، وإنما تنزّلت أحكاماً حية على واقع متحرك وحياة متجددة، وذلك تبعاً لأسباب وأحداث مختلفة موصولة بحياة الناس وتفاعلهم فيما بينهم وبين واقعهم ومحيطهم... فأي قراءة لتراثنا ينبغي من وجهة نظرنا، أن تنبع منا، لأننا أعلم بأمور دنيانا، وأكثر معرفة بحاجاتنا الماسة وبكل ما ينفعنا وما لا ينفعنا من هذا التراث، حتى ما يتعلق بالقضايا الدينية، وهنا، ولكي لا يساء فهمي، أقصد تلك التفسيرات والتأويلات التي عالجت القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف....
- يبقى عدم إحاطة الدعاة بتطور الأساليب التكنولوجية الحديثة ودورها الفاصل في إيصال الرسالة الدينية ومدى تأثيرها على الفرد والمجتمع. وكل رؤية غير ذات جدوى إلى هذه الوسائل والتموقف ضدها ووصفها بأوصاف غير منطقية وغير مقبولة في العرف الإنساني والعلمي المحض، هي رؤية قاصرة منهم، بل متحيزة إيديولوجيّاً فقط دون الاعتداد بنص أو بفكر صحيح يمنعهم من توظيفها والإفادة منها...
- يمكن القول إن مضمون الفكر الإسلامي وعدم فهمه بالشكل المطلوب، يؤدي إلى تأجيج الخلافات بين أفراد الأديان الأخرى وكذا الدين الواحد. وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن الصراعات المذهبية في الدين الإسلامي التي استنزفت الأمة منذ زمان ومازالت تفعل. وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدل على عدم الوعي بالاختلاف وعدم قبول الفكر الآخر داخل الدين الواحد، فبالأحرى المختلفين عقائدياً ودينياً. هذا دافع قوي إلى التجديد الإسلامي على مستوى الخطاب وعلى مستوى الفعل والسلوك أيضاً، وهذا لن يتحقق إلا بالدفع بالدعوات المتنورة والمعتدلة في المجتمعات الإسلامية إلى الأمام ودعمها بكل الوسائل المتاحة...
فمسألة هذه الإشكالات تجعل الخطاب الديني بعيداً كل البعد عن متطلبات وقضايا الواقع المعاصر، مما يؤدي إلى تشتيت فكر المستقبلين للخطاب ونفورهم منه، وبالتالي نقف أمام صراعات فكرية أو سياسية أو ثقافية أو طائفية نتيجة لرفض التعددية الدينية أو العرقية، فتتولد بذلك مظاهر مختلفة ومتنوعة من العنف والتطرف والتعصب ورفض الآخر. و هكذا، فإن هاته الحيثيات تقف سدا منيعا أمام غايات الخطاب الديني المتمثلة في نشر القيم الإنسانية السامية من قبيل التسامح بين الأديان والعيش المشترك وقبول الآخر والتحاور معه.
إن الكثير من الناس، وخاصة المفكرين المحسوبين على الاتجاه المتطرف يعتبرون الثورات التي عرفها القرن الماضي، والتي نجحت بأمر نسبي في المجتمعات الغربية، كحركة الإصلاح البروتستنتي، أو حركات اليقظة الدينية الشعبية، أو في جمعيات التبشير والعمل الاجتماعي الطوعي في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، منطلقاً للتجديد الذي يدعون إليه، يبقى فيه الكثير من بصمات سنن الأولين وسقوط في الهفوات المرضية التي شاعت فيها الكثير من الحركات في كل تديُّن عرفه العالم. لكن التجديد في الدين الإسلامي في علة من علله أو في مفسدة من مفاسده أو تقصيراً أو تراجعاً بائناً، هو الأمر المهم، يلزم التجديد للعلاج الجزئي إذا كان الخلل جزئياً أو الشامل إذا كانت العلل شاملة كل مجالاته العلمية والعملية والفكرية. وكل الحركات الإسلامية التي تبنت التجديد في الدين منطلقاً لمشروعها وبرنامجها الفكري، لكنها قد اقتصرت على إخراج العاطفة الدينية التي كانت مغمورة من قبل، فولدت انفعالات كثيرة، منها من تطرف في هذه الانفعالات وأصبح يدعو إلى الرجعية والتقليدية في التدين، ومنها من ضعف وفشل في مواصلة الطريق، ومواجهة الضغط المنظم المستهدف لها ولبرامجها، فسلمت المشعل للخمول والتفرج من بعد.
ويبقى التصور القاصر لمعنى التجديد، عائداً أيضاً لمرض حديث أصيب به المتدينون الحديثون فأصاب معهم تصور الدين نفسه، فالثنائية التي عرفها الدين المسيحي في الغرب والكنيسة في أوروبا خصوصاً بعد مرحلة القرون الوسطى. لكون المسيحية بعد هذه المرحلة اقتصرت على إحياء الشعائر الدينية والطقوس الشكلية المقدمة إرضاء لبعض الأطراف في الديانة وليس لله باعث الديانة، وابتعدت عن التجديد في الشرع الديني الذي يعتبر العصب المهم لكل ديانة سماوية تدين بها مجموعة من البشر. كل هذا جعل بعض الحركات تحسب أن التجديد في الدين هو استبعاده عن منطقة التناقضات الدنيوية التي تعطل الحداثة والتنمية بتدخله فيها من جهة، وتقوقع الدين وتحبسه في ظل الأمور الدنيوية، وتجعله يتخبط في اجتهادات لا ترقى إلى طموحات المتدينين[7].
إن الاعتماد على النقل في الخطاب الإسلامي دون تثبت أو إعمال للفكر النقدي والتأويلي، حتى لو كان الأمر يتعلق، بالحكم بالارتداد على فكر منشور ومعروفة مصادره، لا يحقق الغاية من التفكير العقلاني والتأسيس له. فالمعركة الفكرية، حسب نصر حامد أبو زيد، هي "معركة قديمة في فكرنا الحديث، وهي ليست مجرد معركة حول قراءة النصوص الدينية أو حول تأويلها، بل هي معركة شاملة تدور على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. معركة تخوضها قوى الخرافة والأسطورة باسم الدين والتمسك بالمعاني الحرفية للنصوص الدينية. وتحاول قوى التقدم العقلانية أن تنازل الأسطورة والخرافة أحياناً على أرضها. ولأن النزال غالباً ما يتم بآليات السجال الإيديولوجي دون البدء في تحقيق وعي علمي بطبيعة النصوص الدينية، وبطرائق قراءتها وتأويلها، تظل الغلبة على هذا المستوى من السجال للخطاب الديني على الخطاب العقلاني. وقد آن الأوان للخروج من هذا المأزق، والتخلص من عقدة التأويل والتأويل المضاد للنصوص بتحويل طبيعة النص الديني وآلياته في إنتاج الدلالة"[8].
ونفهم من كلام نصر حامد أبو زيد أن المتشكك في تجديد الفكر الديني والدعوة إلى تحديث الخطاب الإسلامي عموماً، باعتبار أن الدين مكون جوهري أصيل من مكونات هذه الأمة، وأنه لا بد أن يكون عنصراً أساسياً من مشروع النهضة، "فإن عليه أن لا يأخذ الخطاب بظاهر أطروحاته الدعائية الإعلامية، وعليه أن يفهم اليافطات في سياق المواقف السياسية المباشرة من قضايا التنمية والعدل الاجتماعي والاستلال الاقتصادي والسياسي. ولا خلاف على أن الدين- وليس الإسلام وحده- يجب أن يكون عنصراً أساسياً في أي مشروع للنهضة، والخلاف يتركز حول المقصود من الدين: هل المقصود الدين كما يطرح ويمارس بشكل إيديولوجي نفعي من جانب اليمين واليسار على السواء، أم الدين بعد تحليله وتأويله تأويلاً علمياً ينفي عنه الأسطورة، ويستبقي ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية؟"[9]. وفي هذا الصدد يمكننا القول إن الدعوة الملحة اليوم إلى تجديد الفكر الديني والخطاب الإسلامي هي دعوة أساسية في تطور الفكر الإسلامي وابتعاده ما أمكن عن التأويل الأسطوري والخرافي للنصوص المقدسة وحتى للنصوص التي فسرت هذه النصوص وأوَّلتها في زمن معين من زمان الأمة كان الأمر يتطلب مثل هذه التأويلات. لكن ما يثير الشك هو تلك التأويلات التي كانت تنحو نحو تحقيق غايات فكرية وسياسية وإيديولوجية معينة، فهي في أغلبها تذهب مذهب المؤول وتخدم مصلحة مذهبه بالدرجة الأولى وتدافع عن أطروحته الدينية والسياسية. وبالتالي يصعب علينا اليوم الأخذ بكل هذه التفسيرات والتأويلات لأنها تبعد بدرجة أو بأخرى عن الحيادية والتجرد العلميين.
إن التجرد العلمي لدى المؤول أساسي في عملية التفسير لأنه يحاول تقريب الفكرة وتفسير النص الديني خاصة إذا كان النص قرآنياً، فلا يعقل أن يفسره حسب هواه، أو حسب مذهبه الخاص، أو حتى حسب ما يعتقد من معتقدات ثقافية أو سياسية. لأن الأمر هنا يتعلق بنص موجه لكل الناس على اختلاف توجهاتهم وأعراقهم وألوانهم وأجناسهم وقناعاتهم. وإذا ما فعل ذلك، فإنه يذهب مذهباً غير مقبول في عرف البحث العلمي، ولهذا فالدعوة إلى التجديد في هذا الفكر بالخصوص هي دعوة ملحة ومنطقية وضرورية في زمننا هذا الذي كثرت فيه الفتاوى والتأويلات التي تنتج العنف والعنف المضاد والكراهية والحقد ضد البشرية، مما يؤثر سلباً على السلم الكوني والتعاون الإنساني المفترض في البشر جميعاً. وفي الإطار نفسه نستحضر مع نصر حامد أبو زيد بعض الآليات التي تمنع تجديد الفكر الديني والخطاب الإسلامي، وهي[10]:
- التوحيد بين الفكر والدين وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع.
- تفسير الظواهر كلها بردها جميعاً إلى مبدأ أو علة أولى، تستوي في ذلك الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية.
- الاعتماد على سلطة السلف أو التراث، وذلك بعد تحويل النصوص التراثية- وهي نصوص ثانوية- إلى نصوص أولية تتمتع بقدر هائل من القداسة لا تقل- في الغالب- عن النصوص الأصلية.
- اليقين الذهني والحسم الفكري القطعي، ورفض أي خلاف فكري إلا إذا كان في الفروع والتفاصيل دون الأصول والأسس.
- إهدار البعد التاريخي وتجاهله، ويتجلى هذا في البكاء على الماضي الجميل يستوي في ذلك العصر الذهبي للخلافة الرشيدة، وعصر الخلافة التركية العثمانية.
إن مثل هذه الآليات المانعة للتجديد والتفكير المستقبلي في الخطاب الإسلامي، لا يمكنها بطريقة أو بأخرى أن تحقق ما نرغب فيه، لأن الأصوات الكثيرة التي تتشبث بمثل هذه الآليات تتسلح بسلاح خطير توجهه كلما وجدت فرصة في ذلك، إلى المجددين والداعين إلى التجديد وتطوير الفكر والخطاب الديني، وهو سلاح التكفير والاتهام بالإلحاد والردة، هذا السلاح قد يكون وسيلة وأداة لإقامة الحد والحكم بالموت والقتل. ولذلك فالعديد من الأصوات المتنورة والحداثية تتخوف من التعبير عن آرائها بكل حرية والتموقف من بعض القضايا الدينية التي تحتاج إلى مراجعة وتأويل جديد وتفسير مغاير لتفسير السلف.
إن الحديث المسهب عن التجدد أو بالأحرى، التجديد في قضايا الفكر الإسلامي بالخصوص كما هو التغير والتغيير في قضايا الاجتماع، يدعونا إلى القول إن المجتمع يتغير مع حركة الزمن حتى لو لم يكن هناك منهج للتغيير والتجديد يقنن ويحدد ويختار المنهج الصائب لحركة المجتمع التي تقود إلى أهداف بعيدة أو قريبة جزئية أو شاملة، فكذلك الفكر تحصل فيه تجددات حتى مع غياب منهج التجديد، هذا يعني أن الفكر له حركته في النمو كما هي الحال في المجتمع، والفكر لا يتجدد بعيداً عن تجددات المجتمع والعكس صحيح. وهكذا نصل إلى أن التجدد هو ما يطرأ على الفكر من تحولات ومتغيرات نتيجة تفاعلات بين الفكر والمجتمع، وهذه المتغيرات تفتقد إلى المنهجية والتخطيط وقد تكون على صواب أو خطأ، بينما موضوع بحثنا هو التجديد وليس التجدد (الذي قد يحصل تلقائياً ومن دون منهج). والتجديد هو الفاعلية الواعية التي يقوم بها المجتمع من أجل توجيه هذا التحول التاريخي أو استغلاله أو توجيه هذا التحول التاريخي أو استغلاله أو توظيفه لهدف أو لآخر. "إن التجديد إذاً خطة واعية فردية أو جماعية لوضع هذا التجدد ضمن منظور معقول ومنسق، وبالتالي إعادة تنظيمه فكرياً ومن الداخل حتى يبقى فاعلاً"[11].
ثالثا: مسار التجديد الديني:
يرى حسن الترابي أن العديد من الدعوات السالفة قد تجاوزها الزمن، ليس لأنها فشلت في علاج قضايا عصرها، وإنما لأنها نجحت نجاحاً حاسماً في علاج تلك القضايا، فكان لها فضل عظيم، مثل حركة المعتزلة التي قامت لتواجه الغزو الفكري الذي أتى بشبهات عقلانية كثيرة ومتعددة في وجه العقائد الإسلامية. حيث عمل المعتزلة بسلاحهم العقلي والفكري فشاع هذا المذهب شيوعاً واسعاً في ذلك الوقت. باعتباره يمثل استجابة حاضرة وعلاجاً لأمراض ذلك الزمان. وبقضائه على تلك الأمراض يكون قد استنفذ أغراضه ولم تعدْ حاجة لذلك النهج الذي اشتط في التعويل على العقل ولم يتوازن بين استعماله للعقل وبين التزامه بمعالم النقل عما اختطته الشريعة المقررة. ويمكن الحديث عن العديد من المناهج الدينية التي تصدت في وقت معين للشبهات العقدية والأفكار التي تضرب الدين الإسلامي في عمقه حيث حققت أهدافها كاملة ووصلت إلى غايات عظيمة. لكن ما ينبغي التأكيد عليه، حسب الترابي دائماً، هو أن الفكر الإسلامي الحديث عقدياً كان أو عملياً، عقيدة أو شريعة، "حدثت فيه ثغرة واسعة من جراء انحساره عن الحياة الامة والحياة السياسية بالذات. وقديماً كان الفكر العقدي إما كلاماً موجهاً إلى علاج القضايا الكلامية التي أثارها دخول المنطق والغزو الفكري الهيليني على المسلمين، أو فكراً توحيدياً موجهاً ضد الشرك الشعائري، وهو الشرك الذي يتمثل في النذر لغير الله أو الاستعانة بغيره أو الدعاء لمن دونه أو الطواف بوثن أو غير بيت الله سبحانه وتعالى.... ولكن حال الزمان، وأصبح يجابهنا شرك جديد هو الشرك السياسي. وهو أن يتخذ الناس آلهة من دون الله سبحانه وتعالى يتحاكمون إليها، ويتخذونها مصدراً للتشريع وأهلاً للطاعة والتقليد وأصلاً لوضع القوانين"[12].
وفي هذا الصدد، يدعو الترابي إلى تجديد الفكر العقدي الإسلامي في كل وقت وزمن، لأن الشرك في كل زمن يتخذ مظهراً مختلفاً عن السابق. فقد يكون هذا الشرك مثلاً في مجال الاقتصاد والحياة المعيشة، فيأخذ الناس الدنيا من أجل المتاع الدنيوي فحسب، ولا يربطونه بالله تعالى وبنعمه الكثيرة، وبالتالي شكره عليها وحمده. لكن ما يؤكد عليه الترابي في هذا الإطار هو بروز مشكلة جوهرية تواجه المفكر الإسلامي المجدد وهي تتعلق بالتجديد نفسه "الذي يلزم أن يتوالى ويدور في كل عصر. ذلك أن الفقه الإسلامي عقدياً كان أو عملياً اضطرد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. وأخذ التابعون وأتباعهم فتاوى الصحابة وطوروها ووسعوها وبنوا عليها واستنبطوا منها الأحكام. التماساً للمصالح المتجددة مثلما التمس الصحابة رضي الله عنهم ذلك. (...) ولم ينقطع خط الفكر الفقهي- كلما جدت حادثة جديدة حاصرها الفقهاء والتمسوا لها حلاًّ، واستنبطوا لها أحكاماً فرعية. ولكن أعقب ذلك أن انسد باب الفقه الإسلامي عهوداً طويلة. والواقع أنه لم يسد أحد باب الاجتهاد بحجة في العقيدة أو في الشريعة. وإنما انسد ذلك الباب بحكم أطوار الفكر الإسلامي وأحوال الحضارة الإسلامية. ولو أن الفقهاء أفتوا بفتح ذلك الباب لظل مسدوداً لا يلجه أحد. ذلك لأن دوافع الحياة الدينية قد تضاءلت بعد الدفعة الأولى. فأثرت على الواقع وأثرت على الفكر. وإذا انحط الواقع انحط الفكر وإذا تحرك الفكر تحرك الواقع، فهما متلازمان تماماً"[13].
لكن، هل للتجديد مشاكله ومخاوفه؟ أم أن الأمر مجرد تخوف غير مبرر ورهين فقط بفوبيا الاقتراب من الدين والفكر الديني عموماً؟. يجيب الترابي على هذين السؤالين فيقول إن للتجديد بالفعل، محاذيره، فقد "يخشى الناس من الضلال الجديد، وقد يشير المحافظون إلى أن الناس أصبحوا مفتونين بالتطور لذاته وبالتبديل اعتباطاً، يبدلون السيارات ويبدلون أنماط الباس يوماً بعد يوم ويبدلون حتى الأزواج سنة بعد سنة، كما يحدث في بعض المجتمعات الأوربية الغربية. وقد يخشى المحافظون أن يتصدى للفتوى في الشؤون العقدية والشؤون الشرعية العملية مفتُون جاهلون فيضُلون ويضِلون، ويخشى الناس إذا فتحنا الباب على مصراعيه لكل ذي رأي وكل ذي هوىً، أو تتفرق بالمسلمين المذاهب وتتشتت بهم السبل فتتبدد وحدتهم. ولكن مهما كان في ذلك الاعتبار من وجاهة، ومهما كان ما يلزمنا أن نحاط له من ضمانات، فينبغي أن نقدر أن الجمود الفكري يؤدي إلى ضلال أوسع من الاجتهاد في كل حال، وأن التفرقة تتأتى من الجمود أكثر مما تتأتى من الاجتهاد"[14]. هنا نخلص إلى أن الاجتهاد في ظل هذه المخاوف أفضل من الجمود الفكري والتوقف عن التفكير والبحث عن التجديد في الدين وفي الخطاب الديني الذي يساير الواقع والحياة المتجددة.
إن مسار التجديد في الدين الإسلامي أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته الإسلامية حتى أصبح في عهده وعهد خلفائه الراشدين العظام فكراً وديانة يضرب بهما المثل في عهود طويلة من بعده، فتغير أمر الدين وفكره مدة كانت كافية لنحمل عليها طموحاتنا وندعو إلى تبنيها. فالعصر المحمدي والراشدي كان بامتياز عصراً ذهبياً مضى إلى غير رجعة، فكانت بحق باقة الدين التي لا تذبل ولن تذبل أبداً. إن المسألة هنا تتعلق برؤيتنا النقدية للتراث، فهي رؤية ذات وجهين متنافرين: إما رؤية متأصلة في التباكي عليه والحنين إليه والدعوة إلى إعادته بكل تجلياته وصوره النمطية والموضوعية، وإما رؤية هدامة واستقصائية تعتبر التراث تخلفاً ورجعية ولا يصلح إلا أن يكون في مزبلة التاريخ. للأسف الشديد هما رؤيتان لهما حضور قوي في الساحة الفكرية وتتصارعان بكل شيء وبوسائل تصل حد التطاحن والتحارب، وهذا إن دل على شيء، إنما يدل على أننا لا نعيش زمننا، وإنما نعيش زمناً آخر بعيداً كل البعد عن حقيقتنا التاريخية.
أما المسار الديني من بعد، فهو في نظرنا، ونظر العديد من المفكرين العقلاء عرف نهوضاً مرات، وانحطاطاً مرات أخرى، بل كثير من المجددين في الدين كانوا يعتقدون أنهم هم الأصلح؟ لهذا المسار، فكان يستولي عليهم الكبرياء والغرور الفكري والغلو فيه أحياناً. وهذا ما أدى إلى إنتاج العديد من الأفكار التي تخرج عن الصواب في أغلب الأحيان فتحيد عن الهج القويم للدين أو لتعاليمه، وهذا ينطبق على العديد من الأقلام الفكية والنقدية التي حاولت سواء بحسن نية أم بسوئها أن تدفع بالنقاش الديني إلى متاهات هو في غنىً عنها في زمن يثور بالعديد من المشاكل والصراعات المذهبية والإيديولوجية المثيرة للحروب والقتال بين أبناء الدين الواحد.
وجميع هذه الدعوات أصبحت متجاوزة بفعل تآكل الوقت والزمن، ليس لأنها ضعيفة المحتوى وقليلة الطموح الفكري المرتجى، ولكنها لا يمكنها أن تواصل تقدمها في الزمن الحالي من دون تطويرها وجعلها تتماشى مع متطلبات العصر الحالي. ففكر المعتزلة وحركتها اللذان جاءا بالجديد لمجابهة الفكر الذي كان سائداً آنذاك وحاولت القضاء عليه نهائياً، فبقضائه على ذلك الفكر المشبوه تكون حركة المعتزلة قد انتهت مدة صلاحيتها، وكذلك الحركات التي جاءت من بعدها قد عرفت نفس المسار التاريخي، وبذلك نكون بحاجة إلى فكر جديد يقضي على شبهات العصر وتطرفاته ضمن تدين حق بعيد عن الدوغمائية والتقليدية الراسخة في ذهن البعض منا.
رابعا: مستقبل الفكر العربي المعاصر وإرهاصات الماضي:
يتحدث محمد عابد الجابري عن مسألة التوحيد بين مستوى علم الحاضر وعلم الماضي، أو بين فلسفة اليوم وفلسفة الأمس، فيعتبره مستحيلاً، سواء لنا أم لغيرنا، بل ليس هناك من هو بيننا أو بينهم من يطالب بإحلال علم الأمس وفلسفته محل علم اليوم وفلسفته، حيث يقول في ذلك: "أما إذا كان الأمر يتعلق بالتوحيد بين التراث، تراثنا نحن، وبين الفكر العالمي المعاصر على صعيد وعينا فهذا أمر آخر. إن المسألة هنا ليست مسألة إحلال الماضي محل الحاضر أو القديم محل الجديد، بل هي أولاً وأخيراً إعادة بنينة الوعي بالماضي والحاضر والعلاقة بينهما، وهي عملية تتطلب التخطي في آن واحد لثقافة الماضي وثقافة المستقبل: التخطيط لثقافة الماضي معناه عادة كتابة تاريخها وبالتالي إعادة تأسيسها في وعينا وإعادة بنائها كتراث لنا نحتويه بدل أن يحتوينا. أما التخطيط لثقافة المستقبل فمعناه توفير شروط المواكبة والمشاركة: مواكبة الفكر المعاصر والمشاركة في إغنائه وتوجيهه، وذلك هو معنى المعاصرة"[15].
ويتحدد المطلب الأساسي اليوم من خلال التمييز بين مستويين واضحيْ المعالم حسب الفكر العربي المعاصر، ويتجلى أمرهما في:
– التغاير الموضوعي: الذي يربط بين علم الماضي وعلم الحاضر، بين فلسفة الأمس وفلسفة اليوم، لأنه يمثل قوام تاريخ الفكر البشري عامة، حيث إن تاريخية الفكر الأوروبي قامت على وضوح هذا التغاير وتمايز عناصره وأطرافه.
– التغاير على مستوى الوعي: وهو الذي يهمنا لأنه يقع على وعينا نحن، فتبدو فيه العلاقة بين التراث والفكر المعاصر مفصومة ومقطوعة، لا يربطهما جسر ولا يصلهما رابط منتظم، إلى درجة أن الواحد منا قد يصرخ، بطريقة انفعالية وبحسن نية في آنٍ، قائلاً: "إني لأقولها صريحة واضحة، إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإما أن نرفضه ونوصد الأبواب لنعيش تراثنا... نحن في ذلك أحرار، لكننا لا نملك الحرية في أن نوحد بين الفكرين"[16].
إن الدعوة إلى نقل مشاكل الماضي وصراعاته المذهبية والسياسية المدمرة للوحدة والتوحيد الفكري هي أكبر خطأ يمكن ارتكابه في هذا العصر الذي نعيشه. فالأصالة القومية في مجال الثقافة و في غيره من المجالات الأخرى هي تلك التي أبدع العرب فيها ومازالوا يفعلون رغم المشاكل والمثبطات التي تعترضهم كل يوم. فالأصالة ليست مرتكزاً أو مبدأً أو حتى كنزا ثميناً، وليست معطىً خاماً خالصاً، وإنما هي سمة محددة المعالم "تطبع كل عمل فيه خصوصية وإبداع. والخصوصية والإبداع ليسا وقفاً على فترة معينة، لا في التاريخ العربي ولا في تاريخ الشعوب الأخرى. وإذا كانت بعض الفترات من تاريخنا قد شهدت من الأعمال الإبداعية الأصيلة أكثر مما عرف غيرها فنحن لا نظن أن أحداً يجادل في أن عصر التدوين كان الفترة الذهبية في التاريخ الثقافي العربي. فلنستلهم، إذاً، ما تمَّ في هذا العصر من تخطيط شامل للثقافة العربية لتدشين عصر تدوين جديد نقوم فيه بإعادة بناء شامل للثقافة العربية القومية، التي يجب أن تشمل اليوم كما شملت في الماضي كل الثقافات المحلية والشعبية داخل الوطن العربي مع التفتح الواسع إزاء الثقافات الأجنبية. ومن دون شك فإن التواصل والمثاقفة في جو من الحرية والديمقراطية سيفتحان المجال للاحتفاظ بصورة طبيعية وجدلية بالعناصر الحية في التعددية وبالتالي بتجاوز هذه الأخيرة لمصلحة ثقافة قومية أكثر انصهاراً وخصوبة"[17].
إن الثقافة العربية القومية مرتبطة أشد الارتباط بثقافة الآخر وتابعة له بالقدر نفسه الذي يعتبرها مرتبطة بثقافتنا القديمة وتراثنا العربي الإسلامي. وما الدعوة إلى التحرر من هذا الآخر وثقافته إلا دعوة قاصرة مادامت لا تدعو أيضاً إلى التحرر من التبعية والارتباط الراديكالي بتراثنا وماضينا نحن. فهيمنة الثقافتين معاً علينا اليوم، وعلى خطابنا الفكري المعاصر، هي المقيد لإبداعنا وتجديدنا الأصيل، والتحرر منهما ينبغي أن ينطلق من مسلمة التعامل معهما بندية أو برؤية نقدية تفيد من الجوانب الإيجابية وتطرح الجوانب السلبية التي لا تفيدنا في شيء، فهي إما أن تقودنا نحو التطرف والتشدد في الفكر والسلوك كما هو الشأن في الفكر الديني المعاصر، أو تقودنا إلى الانحلال والتفسخ وترك قيمنا وأخلاقنا كما هو الشأن بالنسبة لدعوات البعض منا مثل الدعوة إلى تبني حرية الشذوذ الجنسي والمثلية الجنسية والزواج المثلي... وغيرها.
لقد ظل الفكر العربي الحديث والمعاصر في ظل الازدواجية المتمثلة في النموذج الغربي الحديث وفي التراث العربي على المستوى الثقافي المحض، يتحرك بين التراث والفكر الغربي حيث ارتبط بالضرورة وتاريخياً بقضية النهضة وشروطها الفكرية بالخصوص. وبالتالي فالدعوة ينبغي أن تكون انطلاقاً من التعامل النهضوي مع تراثنا العربي والإسلامي، من خلال الارتباط بالأصول من أجل تجاوز الحاضر والماضي القريب الذي يدعمه بأسلوبه الخاص، بل والانطلاق بسرعة "نحو المستقبل عبر مسلسل جدلي من الاتصال والانفصال عن الماضي والحاضر معاً"[18]. هذا المسلسل يدخل في إطار يضفي نوعاً من العقلانية بين متطلبات الحاضر وحاجيات المستقبل الذي ينبغي التفكير فيه وله بطرق نوعية تفيد من الثقافات الأخرى والتجارب السياسية والثقافية العالمية.
إن أزمة الفكر العربي المعاصر تتجلى في النموذج السلفي الذي صار نموذجاً يحتذي به الكثيرون ويطالبون بإعادة إحيائه من جديد، فهو الذي يتحمل نتائج خيباتنا وفشلنا في إيجاد طريق صالح وسالك نجدد به فكرنا وخطابنا. ولا نعني هنا بهذا النموذج، التيار الديني فقط، بل نعني كل التيارات الفكرية والسياسية والإيديولوجية الأخرى مثل التيار الماركسي والتيار الليبرالي والتيار الاشتراكي وغيرهم. فكل تيار يدعو إلى إعادة إحياء نموذجه وسلفه لا يمكن اعتباره النموذج الأصلح على كافة المستويات وفي كل المجالات، والمنبع الغني بالوسائل والأدوات والأفكار التي تغذي جوعنا الفكري والثقافي، وتنقذنا من فشلنا وضعفنا. وما يمكننا التنبيه إليه هنا، هو أن هذه الدعوات كلها تستقي مفاهيمها وأفكارها وثقافتها من نموذجين سلفيين اثنين هما: التراث العربي الإسلامي بكل حمولاته الدينية والثقافية والسياسية، والفكر الغربي الحديث والمعاصر الذي يغري بالاتباع والتقليد رغم اتصافه بالعديد من السلبيات التي لا تزيدنا إلا فشلاً وانحطاطاً وتخلق بيننا صراعات نحن في غنىً عنها.
وفي هذا الصدد نجد محمد عابد الجابري يقول إن عملية التفكير لا تتم بالضرورة إلا داخل ثقافة معينة وبواسطتها باعتبارها ثقافة أساسية في هذه العملية. "والتفكير بواسطة ثقافة ما معناه: التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكل إحداثياتها الأساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتها:الموروث الثقافي والحي ط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل، بل النظرة إلى العالم، إلى الكون والإنسان، كما تحددها مكونات تلك الثقافة"[19]. ومن هنا نرى أن عملية التفكير هذه تنطلق بالضرورة من العمل على إعادة تفكيك فكرنا العربي والإسلامي وبنائه من جديد وفق رؤية متجددة ومستقبلية دون التشبث بالماضي بكل عناصره التراثية دينياً وثقافياً. فهذا البناء يتأسس على رؤية بعيدة كل البعد عن القراءات التراثية للنصوص الدينية المقدسة والتي برزت في أزمنتها انطلاقاً من رؤى إيديولوجية وسياسية محضة. فاليوم، نعيش ثورة علمية وتقنية تتطلب الابتعاد ما أمكن عن الإيديولوجيات والمصالح الفئوية والشخصية الموغلة في التطرف والتشدد.
ويرى الجابري أيضاً أن محاولة تغيير نظام الفكر السائد على المستوى الثقافي والديني، والذي يكرس بطريقة أو بأخرى الازدواجية والاستلاب وانفصام الشخصية والرؤى اللاعقلانية واللانقدية، تتطلب نوعاً من التعامل الجديد مع تراثنا العربي الإسلامي ومع الفكر الغربي معاً. فمسألة إعادة قراءة تراثنا الثقافي والديني بصورة مختلفة "تجعله معاصراً لنفسه على صعيد الإشكاليات والمحتوى المعرفي والمضامين الإيديولوجية وتمنحه معناه بالنسبة لمحيطه التاريخي الخاص، ومعاصراً لنا على صعيد الفهم والمعقولية مما يعطيه معنى يجعله تراثاً لنا يغني حاضرنا ويلهم مستقبلنا، من جهة، والتعامل النقدي مع الفكر الأوربي، سواء على صعيد المناهج أم المضامين، مع الانفتاح الواعي على جميع نواحي التقدم العلمي والثقافي والرؤية الفلسفية، من جهة أخرى"[20]. إذن، فالدعوة الأساس تنطلق من الرؤية الحديثة لتجديد فكرنا العربي والإسلامي الذي لا يمكنه أن يتطور إلا من خلال استراتيجية محددة المعالم والتوجهات وقد حددها الجابري في هذا المقطع الذي استشهدنا به أعلاه...
خامسا: مستقبل الدين الإسلامي:
يتأسس المستقبل الزاهر للمجتمع الإسلامي على أسس فكرية ومنطقية وعلمية محضة، تبتدئ بالضرورة بالتفكير في رؤية استراتيجية وعلمية محددة المعالم والغايات لتحقيقها وفق منظور تقدمي وتنويري يساير الواقع الحياتي والسياسي والاقتصادي، ويستفيد من الآخر وتجاربه في الإصلاح الديني والسياسي دون مركب نقص أو كبرياء زائد لا يغني ولا يسمن من جوع. فهل يمكن للحركات والجماعات وحتى الأحزاب الحالية المنتشرة في عالمنا العربي والإسلامي أن ترسم للدين مستقبلاً يليق به كدين إبداع وتجديد وتحديث ليس بالمعنى الغربي وإنما بما تعارف عليه المسلمون منذ التاريخ؟ وهل يمكن للمفكرين التجديديين أن يخططوا لأنفسهم منهجاً تجديدياً في مواجهة التطرف الذي نعيشه الآن بعيداً عن تدخل القوى والظروف المهيمنة على العالم؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة الملحة، لا بد إذن من تجديد الفكر الديني الإسلامي في هذه الآونة بالذات، لأن الدين الإسلامي في العالم يتخذ مساراً مختلفاً كلياً عن روحه الطاهرة المتسامحة. ولا بد من تطوير المعرفة الإسلامية عند المسلمين أولاً، وإخراجهم من قوقعة التقليدية والرجعية التي تكاد تقضي على المسلمين جميعاً. فكل تشبث بالسلف سواء من الناحية الفكرية أم من الناحية السلوكية هو عمل رجعي ومؤسس على رؤية ضعيفة المحتوى وقريبة من التقليد الأعمى الذي يؤكد ضعف المقلّد وتخلفه وبساطة تفكيره وعلمه ومعرفته
ويرتبط هذا المستقبل الزاهر للإسلام كدين تجديد وتحديث وإبداع بكونه منطلقاً للتغيير البشري والعلمي والسياسي، ولنا في رسول الله إسوة حسنة، باعتباره أول مجدد في هذا الدين من خلال تكريسه لسنة حميدة تقف على الإبداع السياسي والاجتماعي في العديد من القضايا البشرية والسلوكات الحياتية المرتبطة أشد الارتباط بواقع الناس وحياتهم الخاصة. وإذا ما وضعنا ثقتنا في أنفسنا ونهلنا من سيرة الرسول الأعظم وحاولنا تكييفها مع واقعنا فإننا سننجح في تجاوز الرؤية السلفية المحضة للفكر الإسلامي وتكريس التجديد كمنهج وسلوك اجتماعي وسياسي ومعرفي في حياتنا. وبذلك يمكن لنا أن نتجاوز الظروف الحالية المعيقة دون أن نتجاوز ما جاء به الإسلام، وننجح ببراعة في إخراج ديننا المتسامح من مشاكله التي يغرق فيها غالبية المسلمين. وفي الختام، يمكن أن نتفاءل ولو قليلاً ببعض الانطلاقات التجديدية التي أصبح ينادي بها بعض المفكرين الذين ما فتئوا يشتغلون ليلاً ونهاراً من أجل رسم خريطة جديدة لإسلامنا الحنيف تليق به وتجعله ينافس الديانات الأخرى إن لم نقل في أولها فكرياً وفنياً وإبداعياً وأدبياً وعلمياً... حينها يمكن لنا أن نفتخر أكثر.
إن النظر إلى المستقبل ينطلق من النظر إلى الذات وإلى التاريخ باعتباره المنبع الغني بالفكر والإبداع الذي يفترض في المسلم، باحثاً كان أم مفكراً، أن يلمَّ به ويقرأه بطريقته الخاصة من أجل تنقيته من الشوائب والأفكار التي لن فيدنا في شيء. إن مستقبل الإسلام، في عالم غارق في الصراعات الطائفية ولمذهبية والعرقية،وفي الحروب الأهلية تحت عناوين دينية، مرتبط أشد الارتباط بتجديد الفكر الإسلامي الموغل في التشدد النابع من الرؤية التقليدية للدين والمؤسس على التطرف في تأويل النصوص المقدسة خصوصاً.
إن مستقبلنا مشروط بتجاوز الفكر الراديكالي الموغل في التشدد الديني الذي يستمد أفكاره وثقافته من فكر ديني راج في أزمنة متفرقة من تاريخ العرب والمسلمين، حيث عرف العديد من القلاقل والاختلافات على مستوى التفكير والتعبير والسلوك والانتماء... كل هذا ساهم في الحد من الانفتاح على الآخر والوقوف ضد أي تجديد محتمل، فتوقف قطار التجديد الفكري حيث استقر في محطة واحدة استوطنت مناطق محددة من الجغرافيا العربية، وبالضبط في الجزيرة العربية التي برزت فيها تيارات دينية تصدت للتجديد وأعادت إحياء الفكر الإسلامي الذي شاع في القرون الوسطى، فنتجت عن ذلك العديد من الأفكار الدينية التي ساهمت في خلق صراعات فكرية وحروب مذهبية توجت بتدمير العديد من البلدان العربية إبان ما يسمى بالربيع العربي.