حكاية بغل
انتهت الانتخابات الجماعية من دون أن تفضي إلى جديد. فمن كان بالمجلس القديم عاد إليه أمام دهشة الجميع، وحسرة المثقف الواعي الرفيع، والأمي الفقير الوضيع..عاد جميع الأعضاء السابقين إليه بعد ما خاضوا صراعا شرسا بذلوا فيه الغالي والنفيس..انتهت المقالب الانتخابية فجاءني عضو قديم، كان قد عمّر في المجالس السابقة زمنا طويلا، جاءني برفقة عضو لم تجمعني به سابق معرفة. وكنت قد تابعت ما تمخضت عنه تلك الانتخابات من غرائب الأمور، وما صاحبها من سجال وسباب وهراء، وما عرفته طرق تشكل المجالس واختيار الرؤساء، و توزيع المهام حسب المقاس والولاء.
كان ذلك متزامنا مع بداية السنة الدراسية، وكنا نستعد لتسجيل التلاميذ واستقبال الآباء، خاصة بعد تأخر ملحوظ بسبب مشاركة جل أطرنا الإدارية في مهام رئاسة مكاتب التصويت على طول تراب الدائرة. وقتها، كنت مشغولا جدا فلم أعره كثير اهتمام إلا من سلام عابر وكلام مختصر عن الصحة والأهل. قدم لي العضوَ المرافق له باعتباره رئيسا جديدا للجماعة القروية، التي تبعد عن بلدتنا بكيلمترات قليلة..كان اسمه قد طرق مسامعي بقوة فيما سبق خلال الحملة الانتخابية، لذا توقفت فجأة راسما ابتسامة مرحب، ومدليا باعتذاري عن قلة خبرتي بالناس :
- أرجو أن تقبل اعتذاري السيد المهندس. لم يحصل بيننا سابق معرفة.
تحرج الرجلان مما سمعاه. ونظر بعضهما إلى بعض نظر المغشي عليه من الموت. ظهرت أمارات الإحراج جلية على وجه العضو الجديد بالذات فاصطبغ بحمرة قانية، وتفصدت جبهته عرقا. وجمد كل في مكانه كأنما نطقتٌ كفرا. ارتسمت الحيرة على وجه الرجل ففغر فمه على ابتسامة بلهاء ميتة. ثم تحسست يد العضو القديم تسحبني من ذراعي بعيدا ليهمس في أذني:
- السيد المدير هناك سوء تفاهم. المهندس أخوه وليس هو .
- لكن ألم تنشروا بين الناس خلال الحملة الانتخابية بأنه هو المهندس ؟
- بلى. مناورة انتخابية من الحزب، وقد انطلت على البسطاء في الدوار . "الناس ما قاريين ما عارفين والو".
نظرت إليه مستنكرا، وإلى العضو المرافق مستحقرا، لكن بدا لي ضحية. وقلت في نفسي." ألعوبة بيد هذا المافياولا شك" ستعيش هذه الجماعة المنكوبة خمس سنوات عجاف يأكلهن خمس "شلهبية" بالمجلس، كما أكِلت الأخماس السابقة من لدن المافيا الانتخابية..
قلت : وما المطلوب الآن؟
قال: شهادة مدرسية للرئيس بمستوى الرابع إعدادي .
قلت : وهل تحصل عليها ؟
قال : لا. كان مؤهلا لذلك . لكن ..
" آه !. هذه "لكن" وراءها مساومة" خمنت.
"رئيس جماعة، وبمستوى تعليمي يكاد يفك به رموز الكلمات، كان الله في عون هذه الجماعة وأهلها مرة أخرى."
طلبت من الكاتبة إحضار ملف السيد "الرئيس" فتأكدت بنفسي من انقطاعه في نصف مساره الدراسي بالإعدادية أي "قبل التخرج" ثم أمرت بتحرير الشهادة بما هو مثبت فيه غير ضال ولا مضل، ومهرتها بخاتم المؤسسة على وقع خيبتهما معا....
يا الله ! هذا هو حالنا بين يديك. فلا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
كانت حال الجماعة التي انتخب فيها هذا الرئيس المسكين تذكرني بالمثل العربي الشهير" أخفق حالب التيس". فما عساه يربح من رئاسة جماعة: لا مشاريع فيها تنمي البلاد، ولا مداخيل تغني العباد. وما زاد يقيني من إخفاقه التام، فضلا عن ضعف مستواه العلمي ووقوعه في "كماشة" مافيوزية انتخابوية. فقر الجماعة الهيكلي وهشاشتها البنيوية. كانت أحياء الصفيح قد تناسلت فيها كبثور بشعة، إثر موجة جفاف حادة طيلة ثلاث سنوات عجاف خلت، أعقبتها هجرة قروية واسعة كانت وراء انبثاق أحياء الصومال و الأكراد والزولو ( ربما خلفية التسمية كانت من إيحاء الوضع الهش للسكان بالجماعة كما لتلك الشعوب بسبب الحرب والاقتتال الداخلي).
ما زاد من شكوكي في نجاحه هو درايتي بخبايا كثير من هؤلاء المنتخبين الذين كانوا معه في المجلس بحكم الزمالة والمهنة. بعضهم كانوا معلمين يشتغلون معنا، والبعض الآخر كانوا موظفين ببلديتنا. وكنا في سجال مستمر، أحيانا نكاد نشتبك بالأيدي حين يتعلق الأمر بالتزوير وشراء الذمم خلال فترات الانتخابات. كنت أعرف الشيء الكثير عن جشعهم وحبهم للاغتناء والارتقاء بشتى الطرق. لذلك كنت متأكدا أنهم سيجعلون من هذا الرئيس الجديد ألعوبة بين أيديهم، يوَقِّع على مشاريع وهمية تقوده توا لولوج السجن من أوسع أبوابه نيابة عنهم. وقد فعلوا ذلك من قبل..
وهذه المرة تبدو الكعكة مهمة..فما تداوله بعض العارفين المقربين من "مراكز القرار " بالعاصمة، والذين كانوا علىى صلة بهؤلاء أن الجماعة ستستفيد من دعم مالي مباشر،في إطار مخطط المغرب الأخضر، المخصص لرفع غيلة الجفاف على الفلاحين المتضررين بلا استثناء، صغارا وكبارا، دعم أسال لعاب المافيا بالمجلس، وشحذ قريحتهم لاستصناع برامج وهمية يوزعون بموجبها "المغانم" فيما بينهم. وأما ما فضٌل منه وهزل فسيجعل في حساب المخطط "للتنمية الفلاحية"، مع ترويج قوي لبروباغاندا دعم الفلاح بالعالم القروي..
كانت الخطة محكمة. وكانت المشاريع منجزة، لكن على الأوراق فحسب..كانت وهمية بامتياز، إلا مشروعا واحدا قرر أعضاء المجلس تنزيله وتنفيذه للمناورة به يوم الحساب المعلوم.
وأحيطت مهمة الأشغال بتكتم بالغ. فلم يتسرب عن طبيعته خبر يذكر. تقرر إنجازه في الساحة الكبرى، على يسار الوكالة البنكية، وبجوار مجمع الصناعة التقليدية.
وعلى الفور شرع في الانجاز. شوهدت شاحنات كبيرة تحضر وتفرغ مُعدات وآليات للحفر والجر، وتغادر ثم تعود في اليوم التالي لتحضر صفائح معدنية كبيرة وعريضة..
وبدأت الأشغال بسرعة أمام دهشة الجميع.اشتغل العاملون بهمة ( وكلهم لا يعرف لهم أصل ولا فصل، إذ جيء بهم من خارج الجماعة).واشتغلوا ليلا نهارا في لحم صفائح من حديد كان بعضها يزن عشرات الكيلو غرامات،لحموا بعضها ببعض، ثم أسندت الصفائح إلى أعمدة خشبية كبيرة فغدت أسوارا عالية صماء مبهمة. وصار الموقع لغزا محيرا لا يعرف المارّون بجواره ما يحصل فيه ولا ما ينجز بداخله..
ولهجت ألسنة الناس بقيل وقال. ولم يهتدوا إلى جواب رغم كثرة السؤال.. وإن كان فريق منهم ذهب بالقول إلى حد اليقين أنه رأى بأم عينيه آليات تدخل الموقع محسوبة على صناعة "الأدوية الجنيسة" التي وافقت عليها الحكومة، وسيعمل هذا المركب الصناعي الجديد بالجماعة على إنتاجها لسد الخصاص بمستشفيات الوطن..
في حين أكد فريق آخر بما لا يدع مجالا للشك أن الأمر لا يعدو أن يكون وحدة صغيرة لصناعة الأكياس الكارتونية القابلة للتحلل، بعد دخول قانون منع الأكياس البلاستيكية حيز التنفيذ، لجمع النفايات الكثيرة بالجماعة. فاستبشر الناس خيرا بهذا الخبر، خاصة وأنه طفح الكيل، وعم السخط بانتشار النفايات في الطرقات والأزقة بعدما فشلوا في تجميعه وتوصيله للمطارح البعيدة. وشاحنة الجماعة التي أصابها عطل جزئي بسيط في جهاز مولدها الكهربائي جعل الجماعة تستغني عنها نهائيا فغرق السكان في بحر من النفايات ردوا دواعي استغناء الجماعة عن شاحنة جمع النفايات لانجاز الوحدة الصناعية لأكياس صديقة للبيئة. فحمدوا الله وشكروا للمجلس حسن صنيعهم إذ تحننت قلوب الأعضاء على أهل الجماعة لما فكروا في بناء هذه الوحدة الصناعية الهامة لأول مرة.
وانتظر الناس بلهفة متى يرون ارتفاع السواري وبناء الأسوار عالية لمعلمتهم الجديدة. ومنى كل شخص نفسه بمنصب شغل قار : هذا بواب، وهذا سائق و حارس يقظ حساس، وهذا حمال، وهذا عامل جلد، وآخر تقني كهربائي وآخر حرفي ميكانيكي، وهذا خبير في التبريد، وكثير منهم بلا تخصص. لكن وحدتهم الصناعية ستعمل على توفير عمل يستعيدون به آدميتهم بين أقرانهم. وهذا هو الأهم..
وحلم كل شخص بالجماعة بالعمل المنشود وهو نائم وهو يقظ، وهو جالس وهو واقف، وهو عامل مياوم وهو عاطل منتظر. كل جلس في مكانه ينتظر انتهاء الأشغال..
لكن شيئا فشيئا بدأ يساورهم الشك؛ فالأشغال داخل الموقع المواري خلف الصفائح المعدنية هادئة، لا جلبة فيها ولا حماس. وعاد الناس من جديد يتساءلون بعد هذه الشهور: ماذا ينجز وراء هذه الأسوار المعدنية اللعينة؟
وجاء الجواب يوم الزينة. استيقظ الناس فلم يجدوا الأسوار قائمة، ووجدوا غطاء أبيض يخفي شيئا .. وجاء الرئيس ومعه الأعضاء فسحبوا في بشر وحبور الغطاء ليظهر ما كان خافيا:
"تمثال كبير مصنوع من صفائح من حديد وأسلاك كثيرة على هيأة "بغل ضخم".
صدم الناس بما رأوا. فعلق أحدهم على الفور بصوت مسموع أراد أن يسمعه الرئيس ومن معه:
"تمخض المجلس فولد بغلا "!
وانصرف الناس وفي أنفسهم حرقة..
وفي الصباح التالي استفاقوا على مفاجأة أخرى: كان البغل الحديدي قد ربط إلى عربة جيء بها وعلى متنها أكوام من نفايات أزقة وشوارع المدينة ...