خَوفٌ ولقاء .
كنتُ قد نَبشتُ بين صفحاتِ مُخيلتي عنه ، لقد كانت كل المسميات به ، أيُّ حُزنٍ هذا الذي غَيّرَ مكنوناتِ وجهَه !
في الطريق الى العمل ، كانت الصدفةَ الحاسمة ، عندما وطئت قدماي المدخل ، صوتٌ لا يشبهه صوت ، إنه آتٍ من اليسار ، اليسار الذي يحملُ القلب .
بشكلٍ عشوائي قبضتْ يدي على قلبي خشيةَ أن يُفضح أمره .. ثم التفتُ اليه ،، الى صوته الساحر ،،
لم يكنْ كل شيءٍ على ما يرام ، تغيرتْ الملامح والهيئة ، إلا عينيه .. عيناهُ ثابتة بكل حدتهما ، وتلك النظرة الثاقبة التي لطالما أوقعت قلبي وبعثرته .
أضاع الطريق ، وكأن الطريق اختلقت الضياع لتوقعه بيّ ، لم يدلّه أحد ، كي ينطوي بنا الشارع ونلتقي .
قد قيل يوماً العيون تكشف ما يخفيه القلب ، وها أنا الآن أكتشف المفاجأة عندما وقعت عيناه عليّ ، تغيرتْ نظرته ، اعتلتها الدهشة ، كان يحدّث عقله ، سمعتُ حديثهما ، لقد كنتُ الأقرب دائماً فكيف لا أسمعهما !
كان قد صنع خارطة للطرق والممرات التي مررها كي يصل إلى وجهته لكنّه لم يصل .. أوقعته الطريق اليّ ، كي نلتقي بعد الفراق الذي أرهقنا شوقاً .
سألته : أنت؟
- وأنتِ ، كم وقت مضى كنتُ فيه وحدي ، وأنتِ وحدك ، الآن أنا وأنتِ .
- ماذا حدث ؟ ما بال وجهك قاتماً ، وهذا الجرح الذي على يسارك ، من أين جاء ؟
- قد فعلَ بيّ الحزنُ ما فعل ، شوقٌ يبددني ويرهقني ، يقتلني البعد يا أنتِ ، يقتلني الصمت ،، هلّا تحدثنا ؟ هلّا سمعتي ما أقول دون سؤال ؟
- أتظن بأني قادرة ؟
- ولو لمرة واحدة ، افعليها لأجلي ..
لم أتمكن من الرفض ، كلَّ ما فيّ يضجُ بالقبول ، حتى وجدتني أعرض عليه أن نتسكع سوياً .
- لكن ، وعملك ؟! لم تكوني يوماً مقصرة به .
- دعك منه ، كل شيءٍ قابل للتعويض ، عدَاكَ .
أوشكتْ السماءُ أن تُمطر ، تحت تلك الغيوم كان لقاؤنا الأول .
- أتظني أن القلب قد ينسى يوماً من أحب ؟
- كلّا ، القلب لا مخرج له .
لقد كانت النهاية قبل عامٍ على الأقل ، في أحد أيام الشتاء ، تشجرنا وفعل الغضب فعلته ، حتى إتفقنا أن لا عودة لَنا ، لنّ تجمعنا رسالة ، أو مكالمة ، ولَن يكون لنا لقاء ،، حسمنا أمرنا أنّ لكل شخصٍ طريقه .
حتى جاء هذا الصباح ، وصوتُ فيروز يردد :" عودوا قبل ما الجفا يُغمر ليالي العمر " ، كم كانت صادقة ، كلّما زاد البعد ، جفا القلب .
كان الهواء عليل وصوت فيروز يثقب القلب ، أيجفي القلب يوماً من أحب ؟
أيكره القلب من هواه ؟
كل تلك الأسئلة جالت خاطري صباحَ مساء .
كانت خُطانا متساوية ، ولكن صراع القلب ما زال قائماً ، هناك جبال من الأسئلة ، لِما كل هذا البعد ؟!
- حدثني ..
- عن ماذا ؟
- عن ما كان ، وما سيكون ، عن لقاءِنا هذا ، حسبتُ أنّ الجفاء تمكن ، حتى أني لن اذكرك ، يوم أن تساوى القرار لديّ ، ظَهَرْت ..
- هل هناك مشكلة ؟ هل هي قضية نقطع الوقت للحديث عنها؟
ساد الصمت ، قلبي يحدّثني ، ما من قوةٍ يأخذ من نحب بعيداً ، الحب يسكن فينا ثم يستقيم ، فهو آتٍ ، راجعٍ لا محالة .
كان البعد قاسٍ ، كٌلُّ منّا حاول جاهداً أن يستقل وينسى نصفه الاخر ، وكُلّ المحاولات باءت بفشلٌ ذريع ، استسلمنا للقاء .
لم نقلْ شيئاً ، نسيرُ على غَير هُدى ، ثم عدنا طريق العودة للعمل ، ورحل دون أن أدله على الطريق ..
جاء الليل ، ألم يقولوا أن الليل للفاقدين عذاب ؟
ويله ألم يأتيه ليلٌ قط !
الليل يدق أبواب المتألمين ، وأنا أبحث عن الغائبين ، لِما غائبين ؟
إنا الخامسة صباحاً ، لم تَكْتُب لي بعد ، ولم يأتيني صوتك ؛ لذا أنتَ المسؤول الأول عن حزني هذا اليوم ، سيلتصق حزني على جبهتك ، وستراه كلّما وقع بصرك على شيء .
درتُ حول نفسي عدة دورات ، قَضمْتُ أظفاري ، سرحتُ شعري للمرة الألف ، نبشتُ هاتفي ، بحثتُ عنك بين ورقاتي ، أخرجتُكَ من عقلي ، والتصقتَ بقلبي .. هذا ما يفعله القلق بالمحب .
اقترب الوقت أن يمضي ، وساعات الإنتظار أوشكت على الفرار من يديّ ، لم يعودوا يا فيروز قبل أن يغمرنا الجفاء .
صراعٌ دائم بين العقل والقلب ، وما أصعب تلك الصراعات التي لا نتمكن من حلّها ، أيُّ جهدٍ يؤديه الإنسان ليهرب من نفسه .. نفسه التي تنازعه بين مقبلٍ ومدبر ، بل أيُّ إنسانٍ هذا الذي يقف كحارس مرمى بين قلبه وعقله ؟
عقارب الساعة مسرعة ، بدأ الظلام بالاختفاء ، كتبتُ آخر جملة لك ، شيءٌ يشبهك
- لقد كانت هادئة في كل شيء ، حتى رحيلها ، كان بمثابة دبوسٍ صغير ، ينخزُ في القلب ويقول :" مُتْ شوقاً أيها الكئيب ".
شَقَ النور الغرفة ، تظاهرت العتمة بالتعب ، ثم اعتذرت للرحيل .
خَبَئتُ قلبي لأستقبل الصباح ، صوت رسالة هاتفية .
لم تعتليني اللهفة للرسالة ، لقد رحل الانتظار ولا مرحباً بالمتأخرين .. فتحتُها على مضض .
" لم ينطفء نورك طوال الليل ، كُنْتُ أستمد نَوري منكِ ، حتى حلّ الصباح ، والغريب أن قلبك لم يخبرك أني أسفل شُباكك ، أعتذر ، هلّا نزلتي ؟ "
بدأ كل شيءٍ رأساً على عقب أمامي ، وضعت الكحلة ، ثم ارتديت ملابسي ، نَزِلتَ السُلّم ، لَبستُ حذائي على العتبة ، تَعقدت الأمور كلها ، لم أذكر شيء سوى لمستُكَ الأخيرة .